لماذا غزواني ثانية؟

لا جَرم أنه ما جانف الصواب من طرح اليوم السؤال عما ينتظره الموريتانيون من ترشح رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني لمأمورية ثانية، وهل كانت حصيلة مأموريته الأولى مسوغا لمنحه الثقة تارة أخرى في مأمورية جديدة.
 سؤال تقتضي الإجابة عليه، العودة قليلا إلى خمس حجج خلين من حكمه للبلاد، ومساءلتها مساءلة موضوعية ومنطقية، تراعي ما اكتنفها من ظروف محلية وإقليمية ودولية غير مسبوقة. 
فإن هي إلا أشهر معدودات غِبَ وصوله للسلطة، قبل أن ترجف راجفة وباء الكورونا، تتبعها رادفة الحرب الروسية الأوكرانية، فعاش العالم مع الأولى أشهرا حُسوما وأهوالا تجعل الولدان شيبا، وتقطعت مع الثانية سلاسل التموين العالمية وارتفعت الأسعار في كل بقاع الدنيا، فذهل الصديق عن صديقه، ونسي الحليف حليفه، لكل بلد يومئذ شأن يغنيه، فكان رئيس الجمهورية أمام امتحان صعب، تتأرجح خياراته بين الشروع في الوفاء بالتزاماته التي ضمنها برنامجه الانتخابي حينها "تعهداتي" أو الاستغراق في أتون معركة مواجهة الفيروس الرهيب وحالة الفزع التي نشرها أينما حل وضرب بجَرانه، وتأثيرات حرب عوان تحرق الأخضر واليابس ويصطلي بلهيبها العالم كله، فآثر الرجل أن يمسك العصا من وسطها دون أن تميل ذات اليمين أو تميد ذات الشمال، فطفقت البرامج الاستعجالية التي استهدفت مواجهة الجائحة والحد من تأثيراتها تجوب البلاد عرضا وطولا، إلى حيث مثوى السكان الذين أحصروا في مناطقهم النائية لا يستطيعون ضربا في الأرض، وتم تعزيز المنظومة الصحية التي لم تكن مؤهلة أصلا لأبسط الطوارئ، وتزامنا مع ذلك استمرت البرامج الاجتماعية والتنموية والاقتصادية دون توقف أو تعثر، فجاءت بدعة التأمين الصحي المجاني لمئات الآلاف من الفقراء والمساكين الذين أنهكهم الفقر وأقعدهم المرض والعجز أن لا يجدوا من ينفقون علاجا لمرضاهم، وإطعاما لجوعاهم، وخُصصت رواتب ثابتة ودعم مالي مستمر لعشرات الآلاف من الأسر الفقيرة، ومعيلات الأسر المعدمة وقد أتى عليهن حين من الدهر يمشين بأكناف الوطن أرامل يستطعمن بالكف والفم، إضافة إلى الأطفال ذوي الإعاقات المتعددة والمصابين بأمراض مزمنة وغيرهم ممن ضاقت بهم سبل الحياة وأرهقتهم الأمراض الفتاكة، وألقت بهم بعيدا في مهاوي أزقة الأحياء الشعبية السحيقة وأروقة الضواحي النائية، نسيا منسيا، ينهشهم الفقر المدقع وتفتك بهم الأمراض العصية، فوصلتهم أيادي "تآزر" ومِنح ومساعدات الشؤون الاجتماعية، واحتجز مرضاهم في غرف الإنعاش بين الحياة والموت يتعالجون مجانا دون أي تكلفة أو نفقة، وتنقلوا بين المنشآت الصحية على نفقة الدولة.
كما أطلق "برنامج داري"، لصالح الفقراء والمعدمين المشردين في وطنهم لتوفير مساكن طيبة يرضونها خالصة لهم من دون الناس، واستفاد المتقاعدون من معاشات شهرية منتظمة، وكذا أراملهم، وانطلق قطار المدرسة الجمهورية التي تسعى الى توحيد وتحسين التعليم خصوصا في الشق الابتدائي منه، حيث سيدرس أطفال المُعسر والمُوسر المنكب بالمنكب والساق بالساق، في ذات الظروف وفي نفس الفصول، لا حظوة لغني على فقير، ولا زلفى لفئة على حساب فئة أخرى، سعيا الى بناء مستقبل موحد لأبنائنا دون تمييز أو تفريق.
وسياسيا استل الرجل بهدوء وتؤدة فتيل الأزمة السياسية التي استمرت زهاء ثلاثة عقود بين المعارضة والأنظمة التي تعاقبت على حكم البلد، وكرست خطاب التخوين والتبخيس، كاسرا بذلك نمط تسيير الحكم الذي ضاق به الناس ذرعا عقودا ضجرة، فكان منطق الشراكة في الوطن والمشورة في الرأي، ونبذ المشاكسة والمشاحنة، هو الخيط الناظم لمسار التعاطي مع المعارضة، بما في ذلك الراديكالية منها، والتي فُتحت أبواب القصر الرئاسي أمامها، كما فتحت أمام غيرها، بعد أن غُلقت الأبواب من قبل أمام سائر القوى السياسية المعارضة، وهو نهج نحتاج ديمومته اليوم أكثر من أي وقت مضى، في ظل دوامة الارتباك السياسي والفوضى الأمنية اللتين تعاني منهما المنطقة، فضلا عن التغيرات الجيوسياسية التي تعصف بها، وما تشهده حدودنا الشرقية من اضطرابات متفاقمة، وهي أوضاع نحتاج إلى أن نعبرها بسواعد متعاضدة متماسكة  وآراء منسجمة متناصفة، بعيدا عن المهاترات والتهارش والتنابز بالتخوين والتخويف، ولعل قرار الزعيم التاريخي للمعارضة ورمز العمل السياسي في هذا البلد أحمد ولد داده ومن ورائه الحزب العتيد تكتل القوى الديمقراطية عن الانخراط في ركب داعمي رئيس الجمهورية في مأموريته الجديدة، أصدق إنباء من سائر الدعايات والخطابات، ناهيك عن تصدر بلادنا وبفارق كبير للعالم العربي وإفريقيا في مجال حرية الصحافة،  حسب التصنيف الأشهر عالميا وهو تنصيف منظمة مراسلون بلا حدود الدولية.
كما أسفر ولد الغزواني خلال مأموريته الأولى عن لا نمطية إيجابية غير مسبوقة في حكم البلاد، حين فاجأ الجميع بخطاب وادان المبين، والذي كان واضحا لا مداهنة فيه ولا تورية، ورفع من خلاله سقف منطق الصراحة والمكاشفة بين الحاكم والمحكوم، بنبرة الثائر على أشلاء قيم جاهلية تشوب موروثنا الثقافي، وتعوق مسيرتنا كمجتمع يسعى إلى تأسيس دولة الحداثة والمواطنة، تلك القيم الثالبة المعيبة، والمؤسِسة للتراتبية الاجتماعية الجافية والمكرسة لاحتقار الناس والنظر إليهم بعين الدونية، على أساس أحسابهم أو أعمالهم، فكان خطابه حازما جازما وقاطعا في أن الدولة والدولة فقط هي الخيار الأوحد لهذا الشعب، فلا محيد عنها ولا محيص، وهي صراحة ومجاهرة بالحق ما عهدناها في سادتنا وكبرائنا السابقين، بل طالما تحاشينا البوح بها في نوادينا الرسمية، ومَرَدَت أنظمتنا السابقة على دفن الرؤوس عنها وسط رمال التجاهل والنكران، ووصم المصرِح  بها بالسعي لتشويه الوطن والإساءة إلى سمعته
وقد أشفع ذلك الخطاب بنداء جول التاريخي الذي كان حلف فضول جديد يقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية وروح المواطنة كأسس راسيات للوحدة الوطنية والتعايش السلمي بين كافة مكونات شعبنا.
هذه نماذج مصغرة لمسارات كثيرة يضيق المقام عن سردها، اختطتها بلادنا على جبهات شتى وصعد مختلفة خلال السنوات الخمس الماضية، أُسِس بنيانها على أرضية صلبة، غايتها تعزيز مصالح البلاد وصون حقوق العباد، وقبل هذا وذاك ترسيخ سيادة البلد وتعزيز هيبته والسمو بمنزلته بين الأمم.
وعلى ضوئها وضوء ما لم نقصص من غيرها في هذه العجالة من جوانب عديدة، يتقدم ولد الغزواني اليوم إلينا مرشحا لمأمورية ثانية، فهل نرد الجزاء الأوفى بإعادة انتخابه لنثبت جدارتنا باستمرار البرامج التنموية والاجتماعية وتكريس الرزانة السياسية والرصانة التسييرية، في مأمورية جديدة سعى لها سعيها، متسلحا بأسباب الحكم الحصيف والحكامة الرشيدة.
بقلم: محمد محمود ولد أبو المعالي