تعيش المملكة المغربية منذ أشهر على وقع أزمة داخلية عميقة بفعل فشل الوزير الأول المكلف عبد الإله بن كيران فى تشكيل حكومة جديدة، وخيبة رجل القصر النافذ على الهمة فى الحصول على ثقة الشعب خلال انتخابات أكتوبر 2016 ، رغم الدعم الصريح من الملك محمد السادس وأركان السلطة الآخرين.
وقد تفاقمت الأزمة الداخلية خلال الأسابيع الأخيرة بعد المغامرة غير المحسوبة فى منطقة "الكركارات"، وعملية "التطهير " التى قامت بها قوات الدرك فى المنطقة من أجل طرد التجار منها، بعدما تدخلت قوات تابعة لجبهة البوليساريو منعا للفراغ، وإحباطا لمخطط مغربى يهدف إلى تغيير الوضع القائم منذ وقف إطلاق النار قبل 25 سنة.
الحكومة المغربية التى وجدت نفسها فجأة فى مواجهة الجيش الصحراوى دون "حزام أمان"، صعدت من لهجتها العدائية تجاه موريتانيا خلال الشهر الجارى، وأتهمت على لسان أكثر من وكيل إعلامى للمخزن العاصمة نواكشوط بتجاوز الحدود عبر تشجيع جبهة البوليساريو، بل إن بعض متحدثيها حاول الإيحاء للرأي العام المغربى والعالمى بأن موريتانيا هي من سهل تحرك الرئيس الصحراوى ابراهيم غالى على الحدود، وسمح لمقاتلى الجبهة بتجاوز "الكركارات" إلى شواطئ المحيط الأطلسى بشكل مستفز للرباط، ومعزز لمكانة الجيش الصحراوى فى المنطقة.
ورغم إدراك الجميع أن الشريط الذى تسيطر عليه البوليساريو الآن ظل خارج قبضة المغرب منذ إعلان ملكها الراحل الحسن الثانى تخليه عن مناطق شاسعة من الأراضى الصحراوية لموريتانيا فى اتفاقية مدريد بفعل العجز عن السيطرة عليها أو عدم الإقتناع بتبعيتها للرباط، إلا أن بعض وكلاء السلطة المغربية فى الفترة الأخيرة يحاولون التشبث بالملف والإستثمار فيه لشغل الرأي العام الداخلى عن واقع بالغ التأزيم، والحديث عن المنطقة المحررة من طرف البوليساريو (الكركارات) و تلك الخاضعة للسيطرة الموريتانية منذ الإنسحاب الإسبانى منها (لقويره) وكأنها أراضى مغربية تمت إعارتها لجبهة البوليساريو أو هبة مغربية لموريتانيا خلال العقود الماضية وقد حانت لحظة إستعادتها من طرف المخزن، وهو يستعيد نغمة الروح التوسعية لدى علال الفاسى وبعض شيعته من رموز حزب الإستقلال المحبطين.
مغامرة عسكرية جديدة
الحكومة المغربية - وعلى عكس المتوقع من الحكمة والإتزان- دفعت بقطع عسكرية إلى المنطقة الحدودية خلال الأسابيع الأخيرة، ونقلت السجال من الصحف الورقية وبعض الإذاعات المحلية إلى التلفزيون الرسمى، وحاول الملك المشغول برحلاته الخارجية التواصل مع وزيره الأول عبر بعض مستشاريه من أجل تشكيل الحكومة الجديدة، تحضيرا لمغامرة عسكرية جديدة قد تكون نتائجه كارثية على أمن المنطقة واستقرار الأنظمة القائمة فيها.
وتحاول الرباط - عبر متحدثيها الإعلاميين والسياسيين- الإيحاء للداخل المغربى والجوار الإقليمى بأن الحرب فى "الكركارات" وربما "لكويره" أمر لامفر منه، وترفض مجمل الحلول الودية للأزمة القائمة، بعد أن فشلت الوساطة الإسبانية والأممية فى حل فتيل الصراع القائم، وعجزت قوات الأمم المتحدة عن ضبط حركة الآليات العسكرية باتجاه نقاط الإشتباك المتوقعة.
موريتانيا ألتزمت الصمت تجاه الفترة الأخيرة، لكنها ترقب حركة المغاربة بشكل يومي، وتبدو قواتها العسكرية فى الشمال فى حالة تأهب قصوى، لكنه تأهب غير معلن، واستنفار يدار بقدر كبير من الدقة بفعل المخاوف من الإنزلاق فى حرب رمال جديدة بين الأشقاء.
غير أن الخرجة الإعلامية والسياسية المبرمجة من قبل حزب الإستقلال، والتنغيص من سيادة البلد وكرامة أبنائه، والتعامل مع استقلاله وكرامته وحقه فى الوجود كحالة استثنائية أفرزتها الخلافات الداخلية يمكن العودة عنها فى أي وقت ، أمر يشى بحجم التحول الذى تعيشه المنطقة خلال الأشهر الأخيرة، والمأزق الذى تعيشه الحكومة المغربية والإحباط الذى قاد شباط إلى التحول من غريم لحكومة بنكيران إلى محبط يحاول ارتداء القبعة الإسلامية والوطنية فى محاولة لإستعطاف التحالف الذى لايريده داخل التولفة الحكومية الجديدة.
وبغض النظر عن الخطوة المغربية المتوقعة فى منطقة "الكركارات" وربما " لكويره" فإن نذر الحرب الجديدة تشى بأن خيار وقف إطلاق النار الذى وقعته الرباط - وهي مكرهة- 1991 ، يبدو أنه فى آخر أيامه، ولعل الرغبة الملكية فى تنويع مصادر الدخل هي المحرك الأبرز للطرف المغربى فى الوقت الراهن، كما يقول "شباط" فى أحاديثه المستفزة، بأن الحروب الإقتصادية ضرورية، وأن خسارة المغرب للمناطق الصحراوية اقتصاديا بشكل واضح بعد قرار المحكمة الأوربية الأخير ربما يدفعه إلى مغامرة جديدة فى الشمال الموريتانى، لكنها بالطبع مغامرة خاسرة وقد تقود المنطقة بالكامل إلى حرب استنزاف طويلة الأمد ومكلفة من الناحية المادية والبشرية لمجمل الأطراف المعنية بها.