لن تكون مخطئا إذا صحفت العنوان فقرأت المعذور مذعورا، فالذعر وافرة أسبابه، وربما يكون عذرا به يبرَّر ما يقوم به الرئيس خلال الأشهر الأخيرة من تصرفات هيستيرية تشبه أعراض ما يطلق عليه الأطباء النفسيون "نوبات الهلع Panic Attacks".
ولسنا في وراد تشخيص الحالة النفسية للرئيس - مع سهولة ذلك حتى لدى هواة المتابعين لمفاهيم لغة الجسد- ولكننا نبحث عن تفسير أقرب إلى البساطة، يستطيع بائع النعناع المتجول في أزقة "الترحيل" فهمه بعيدا عن التعقيد السياسي والسيكولوجي.
الرئيس معذور/ مذعور منذ اليوم الأول لانقلابه الأول؛ حين رأى الآلاف المحتشدة في الشوارع المغبرة يتقدمها من كانوا قبل ذلك بأيام يمرون به عند بوابات القصر أيام حراسته له وهم يتطاولون في المسيرات المؤيدة لفخامة الرئيس والمناهضة للإرهاب.
وكيف لا يعذر/ يذعر وهو لا يأمن على نفسه أن يلقى مصير محروسه، وقد رأى بأم عينه تقاطر هؤلاء عليه وميلهم مع هواه مستقلين في الانتخابات البرلمانية وعادلين عن "عادل" فور عدوله عنه؟
الرئيس معذور/مذعور، فخلية التجسس في قصره التي أنفق عليها مئات الملايين من مال الشعب لم تلق اعتراضا، وباتت تجلب إليه من خبايا الدسائس ما أفقده الثقة في أقرب مقربيه، وذعره هنا يعذره، فمن يضمن أن لا يكون القائمون على هذه الخلية يترصدونه كما يترصدون خصومه/ خلانه.
إن حالة الارتباك التي يخلفها انكشاف خيانة صديق مقرب، كان أقرب إلى الخل النديم منه إلى الوزير تجعل دقيق الثقة مستحيل التجميع بعد نثره، ولا يأمن عاقل أن يلدغ من جحر مرة عاشرة.
فهوس التجسس لا يضمن الاطلاع على خفايا ما يدور في هواتف الخصوم/ الخلان فحسب، بل قد يتطور إلى حالة من الشك المرضي "doubting mania" التي تساور الشخص فيها أوهام اضطهادية يعتقد من خلالها أن الآخرين يريدون إيذاءه ويتآمرون عليه وتقود في النهاية إلى فقدان الثقة في أقرب المقربين إليه ثم في نفسه.
وخلال السنوات الأخيرة عاش الرئيس مواقف صعبة جدا ربما ساهمت في تنامي حالة من "هوس الارتياب" ففضلا عن ما تقدمه إليه خلية التجسس من معلومات صادمة يوميا، كان انضمام شخصيات معارضة شرسة إلى صفوف حلفائه وانسحاب بعض من أقرب مقربيه عنه بل ووقفوهم ضده، وتنامي الصراعات غير المفهومة أو المبررة في نظره بين قيادات الصف الأول من داعميه، وازدياد حالات الوشاية بينهم، وتضافر ذلك مع الفشل في إقناع بعضهم بتعديل الدستور لضمان تمرير المأمورية الثالثة، وشعوره بانكشاف ظهره فور الحديث عن المغادرة بعد عامين، كل ذلك ساهم في حالة الذعر الموجب للعذر.
الرئيس معذور/مذعور فحالته تختلف تماما عن حالة معلمه الأول، فاليوم لا مجال للإنكار، ولا مجال للنسيان وأرشفة المنشور باتت أوتوماتيكية، وأي طفل يلعب في الشارع المحاذي للقصر قد يلتقط صدفة صورة بهاتفه تكون دليل إدانة لجانٍ ما، وهذه أزمة لا تستطيع لجان التجسس التعامل معها بحرفية، فالأنترنت يقوم على مبدأ الحياد المطلق ولا يميز في ما ينشر بين صورة من هاتف طفل أو تقريرمن التلفزيون الرسمي.
هنا الكارثة التي تسبب نوبات الهلع للجميع للرئيس وفريقه، وداعميه المعارضين، ومعارضيه الداعمين.
كيف لا يعذر الرئيس في إبداء الصلابة والتمسك حتى آخر نقطة أمل وهو يرى أنه عاري الظهر حين يغادر قصره، ومن يضمن له عدم الملاحقة حتى من صف داعميه الأول فور مغادرته، وقد رأى فيهم من الغدر ما لا يستطيع أن يأمنهم بعده؟
وكيف يأمنه هؤلاء حال الإبقاء عليه، وقد رأوا منه التخلص بلا رحمة من أقرب خلانه ومن رافقوه منذ البيان الأول، وتحويلهم من أركان لا غنى لنظامه عنها، إلى مطاردين في أروقة التجاهل؟
وإذا كان الذعر موجبا للعذر فلن يعدم المعارضون عذرا في خذلانهم لتطلعات الشعب المقهور، فهم غارقون حتى أعناقهم في الارتباك والتردد وقد نحج النظام في حشو صفوفهم برموزه الفارين من قبضته، وأفقدهم بذلك ادعاء النصاعة المعول عليه في مجابهة سهام التخوين وشبهات الفساد، وهم لا يأمنون أن يخذلهم بعض قادتهم في ساعة خوف أو طمع فيكشفون ما ستر من عيوبهم عن عيون العامة.
وفي حالة الخوف المتبادل بين جميع الأطراف بمستويات متفاوتة يستمر الطغيان ويستمر تجذر التجاهل والاتكاء على الأماني ومسيرات ومهرجانات يشارك فيها الآلاف ينفض سامرهم بحثا عن وسيلة نقل إلى بيت أو قصر يؤوي هواجسه ووسادة تقاوم كوابيس يهدئها حال الاستقاظ بأنه معذور.
لكن هذه الدوامة لن تستمر إلى الأبد، سيصل شخص ما مذعور من بين هؤلاء أو غيرهم إلى نقطة الانهيار، ويركل بحماقة كل تلك الأعذار ويفتح أبواب الجحيم على الجميع، فحين تنعدم الثقة تخرج النفس البشرية أسوأ ما فيها من شرور.. كيف سيتجلى ذلك؟
لا أعرف ..