الزعيم

و لد في بيئة اجتماعية عادية كجل لداته المتحكمين و المحيطين به اليوم .....لم يكن له من التعليم حظ وافر .... من قال إن التعليم وحده يصنع مستقبل الرجال ؟!

حتى الآن و هو رجل يخرج الضاد قريبا من الدال ، و لا يعاب الرجل بذلك بل العيب على شيخه من أهل الضفة الأعجمي بطبيعته و الذي لم يتقن يوما مخرج حرف الضاد .

في شبابه تطلع إلى القطاعات الأقل منافسة فوجد طريقه سالكة للإكتتاب في الجيش ، و بصبر حمل الحقيبة و تمنطق بالانضباط .... فطن مبكرا إلى أن من لا تخصص له لا مستقبل له فارتمى داخل مرآب الجيش عل خردة سياراته تعلمه أن يتقن شيئا فيصير لحاما أو شحاما لا يهم ، المهم أن يتقن شيئا أي شيء .... !

بفضل الله ثم بقوة العزيمة أتقن الرجل شيئا وبمنحة إلهية سافر إلى الخارج في أول تكوين عسكري .

تتالت الأيام و الرجل يعمل في عصامية و صمت منضبطا للخدمة في وقتها و محتطبا في وقت فراغه بحبله و على ظهره ، رغم زعم بعض حساد الرجل اليوم أنه غالبا ما احتطب على سيارات الجيش ، إلا أنه لا مصداقية لقول حاقد ....!

مضت الأيام و صار الرجل يخدم قريبا من القصر ثم في القصر ثم مرافقا لزعيم القصر ، و هي مرافقة تعلم منها الرجل أشياء مفيدة و تولدت لديه قناعات جديدة .

تعلم أن الشعراء منافقون يمدحون الزعيم إذا أعطاهم و يجبنون عن ذمه إذا منعهم و أنهم ترف فكري لا طائل من ورائه ، لهذا مقتهم لله و الرجل في ذلك محق فمن أين له أن يعلم بأنه يوجد من الشعراء من له صفات أخرى كصفات «التقي و لد الشيخ » :

ضعيف لا يخاف البطش منه
 

عفيف لا يسب على النوال
 

قراه إذا ألم بأرض قوم
 

مفاكهة اللبيب من الرجال

كيف للرجل أن يعرف مثل أولئك و ما رآهم قط في الشعراء لا قبل القصر و لا فيه ؟! .

تعلم أن الأحزاب السياسية حزب واحد يجمع فيه الزعيم عن قصد كل شركائه المتشاكسين ليدفع لهم من بيت المال ما يدفعون من ضمائرهم و كرامتهم مقايضة ، تاركا لهم حرية الكيد لبعضهم و التسابق في التنازلات توسلا للوصول إلى مقام التبتل في محراب الزعامة .

تعلم أن يبالغ في مدح نفسه و أن لا يسند ذلك إلا غيره تأسيا بالأمير الموريتاني القديم الذي فاجأ من في مجلسه يوما بمدحه المبالغ فيه لنفسه – على غير عادته – ليخبرهم بعد انتهائه بأنه فعل ذلك لأن شاعره الذي كان يمدحه «إيكوه » قد مات بالأمس .... !

لقد تعلم الرجل أخيرا و أكثر من ذلك تولدت لديه قناعات واضحة :

تولدت لديه قناعة باستحالة الوصول إلى السلطة في بلده إلا عن طريق انقلاب و أن على الطامح تكوين فريقه من ضعفاء « الإنكشارين»وانتظار«تفرعن»الزعيم و تململ الرعية ليلعب دور المخلص و يرفع شعار المصحح و يضرب ضربته القاضية .

تولدت لديه قناعة بأن للانقلاب الناجح غطاءين ،خارجي يأتي تدريجيا مع إحكام السيطرة على النظام ، و داخلي لا يكون إلا بالتنسيق مع أقوى الجماعات في المعارضة ، لهذا و لأنه من مصلحة الزعيم أن لا يترك لأي حزب فرصة للظهور فإن على إدارات الأمن و الاستخبارات الكثيرة أن لا تعدم حجة سخيفة و مسرحية - و لو سيئة النص و الإخراج – لتصفية أي وجود أو حزب قد يعكر صفو الزعيم

تولدت لديه قناعة بأنه يجب أن يكون لكل زعيم لا يحب الشعر و الشعراء فريق بلطجية متكامل،« باسحاقه و أمينه و ناطق جريء باسم حكومة خرساء» و أن عليهم أن لا يكونوا شعراء من منطق أن الشعور ضعف و أن وجوده في مثلهم قد لا يضمن قيامهم بالمطلوب ، و أكثر من ذلك يجب أن يعفى مثل هؤلاء البلاطجة الأجراء بملء البطن إضافة إلى قيود الوزن و أعباء القافية من قيم المجتمع و حياء الآدمي ، كل ذلك لكي يضمن أن يستطيعوا – دون خجل – أن ينكروا الشمس في رابعة النهار إذا طلب الزعيم ذلك ، و أن يدافعوا مستميتين عن النظام بالباطل كل الباطل .... !

أخيرا أصبح الرجل متعلما و صارت لديه قناعات ، مواصلا الطريق بانضباط العسكري و صبره و مواصلا حمل حقيبة الزعيم و الاستفادة من عبقريته في فن تفريق الخصوم و الكيد لأعدائه و الطريقة الفذة في تسيير الدول «بالرمونوت كونترول» ...... !

لكي ينتبه الرجل إلى مستقبله كان على ضابط صغير أن يقوم بمحاولة انقلابية وسمت بالفاشلة ، تأمل الرجل الموقف من حوله بقراءة جديدة ليجد أن ما كان يخاله نظاما قويا يديره الزعيم قد وصل منذ مدة إلى مرحلة الموت السريري ، فقرر أن يختار من الإنكشارين فرقة ترفعه و يرفعها و أن يزيل تلك الإبر المحافظة على حياة النظام ليشبع نظام الزعيم الملهم موتا .

فعلها الرجل و قام بالانقلاب الأول ، كان عليه وفق السناريو المحبوك قبل أن يحلى أخيرا بالنياشين أن يدير من وراء الستار مرحلة انتقالية ثم مرحلة شبه ديمقراطية ليتخرج أخيرا من دكار زعيما فوق العادة و كامل السلطة للجمهورية الإسلامية الموريتانية ..... !

في أوقات خلوته كان يفكر غالبا في مدة سنوات حكمه ، و لم يدر في خلده يوما أن يحكم أقل من فترة حكم زعيمه الملهم ، لم لا و رفقاء الدرب متيقظون و الشركاء المتشاكسون في الحزب مستعدون لتجاوز كل مقدس و مدنس ؟!.

أنجز الرجل بعض الإنجازات لا شك في ذلك ، حارب أعدائه بسلاح الفساد انتقد الكثيرون ذلك ، فتح دكاكين باعت الأمل أكثر من الدقيق يشهد الجميع بذلك ، لكن بالمقابل من قال إن أعدائه لم يكيدوا له حين رخصوا للحزب المشاغب « تواصل » ؟!.

لم و لن ينسى الرجل لخصمه المدني السابق ترخيصه ذلك الحزب ، فهو حزب رغم تدثره بشعار الحزبية و ادعائه الممارسة الديمقراطية يتقن من السياسة مثل ما يتقن من إدارة المؤسسات الخيرية و المستشفيات و الجامعات و المشاريع الخدمية ومنافسة الدولة في مبرر و جودها ، و أكثر من ذلك و أنكى إحترم رئيس هذا الحزب مأموريتيه و رشح أبناء العامة و الدهماء لمناصب النبلاء ....

راجع الرجل قناعاته و أعاد قراءة مذكراته في القصر أيام الزعيم الملهم ، لم يجد حزبا مشاغبا يماثله و لا حوادث مشابهة يمكن القياس عليها لحل مشكلته ، حاول كتمان هواجسه و أحاسيسه لكنها تحولت مع الأيام إلى خوف على مستقبل المأمورية الثالثة ، قرر أخيرا أـن يستشير المتبتلين في محرابه .

أعلن الرجل إرهابية الحزب المشاغب رغم قناعته بصعوبة «أرهبتهم » و أعلن إغلاق الجامعات و المعاهد رغم علمه أن المتضرر الأول من إغلاقها هو الشعب و أبناءه و أعلن إلغاء النتائج و إعادة التصويت في المقاطعة الموسومة بالإرهاب « عرفات » و لا يزال سيل الإعلانات مرشحا للزيادة ....!

بدأ الزعيم إذا يخطو أول خطواته باتجاه « التفرعن » و نسي إحدى أهم قناعاته و تفاصيل أحد أهم الأحداث التي كانت سبب تفكيره الأول في الانقلاب على الزعيم الملهم ، فهل يعمي بريق التفرعن الحاكم دوما عن الاستفادة من أحداث ماضيه القريب و القريب لهذه الدرجة !

أحترم الرجل كثيرا من منطق إداري يجعله و هو في منصبه الحالي مديرا لكل مدير و مفتشا عاما لكل مفتش ، و من منطق موضوعي يفرض له كمواطن موريتاني حق الاحترام و حق تقلده لأي منصب عام ما لم يتأله أو يتفرعن ، لكني رغم احترام له – و غيري كثير – لا أستسيغ قرارات الرجل الأخيرة بل يتملكني منها الخوف على بلدي من مغبة الدخول في مطبات قد لا تحمد عقباها، فقد عودتنا التجارب التي يبدو أن الزعيم نسيها أنه حينما يتدخل الزعيم في اختيار الناس لإمام صلاتهم و طريقة تربية أبنائهم و يشهر بأعلامهم فمعنى ذلك أن المقربين منه قد مكروا به و أن هناك انكشاري متعطش قد شكل فريقه و هو عاكف على صياغة البيان رقم واحد.