قصة المذكرة المشؤومة ونقيب المحامين

كانت الساعة السادسة صباحا يوم الخامس من نوفمبر 2004 حينما رن هاتفي المتواضع (نوكيا الظوايه) فإذا علي الطرف الآخر أخي وزميلي في العمل ممن جمعتنا الأخبار برهة من الزمن، وفرقتنا صروف النوي. وهو أمر متوقع كل لحظة بفعل تسارع الأحداث بموريتانيا وعمق العلاقة التي كانت تجمع بيننا تلك الليالي..

بعد السلام الهادئ كعادته .. أبلغني بأن أخبار الشيخ الددو وجدت فجر اليوم، ولله الحمد، وأنه في مفوضية الشرطة بقاطعة السبخة سيئة الصيت، ويشرف علي التحقيق معه المفوض دامس أحد أباطرة التعذيب بموريتانيا.

 

كانت لحظة حزينة علي كل حال، فالعلامة الشيخ الددو أهم لموريتانيا من أن يكون سجين رأي أو ضحية استهداف لنظام مرتبك يعيش لحظاته الأخيرة ..

 

لم يطل السلام حتى أبلغني أن الشيخ الددو معتقل بعد دعوي قضائية رفعها جهاز الأمن السياسي، وأنني من ضمن الأشخاص المشمولين في الملف والمطروحين للشيخ حاليا في التحقيق بتهمة الوقوف وراء نشر صور التعذيب المتعلقة بفرسان التغيير، وأن صلاة العيد والفرح مع الأهل أشياء يمكن تأجيلها إلي وقت آخر …

 

كانت لحظة صادمة بالفعل، فقد كنت علي وشك مغادرة البيت الذي أؤجره قرب “مرصت ولد الحسن” بتوجنين إلي مصلي العيد (أصويله بوحديده) للصلاة ومعى الأخت الكريم المصرية بنت عابدين، والآمال معلقة بقادم عرفت في ما بعد أن اسمه (مريم بنت باب)…

 

ودعتها لكن إلي مكان آخر بعد أن أخرجت آخر ما تبقي في جيبي من راتب الشهر (15 ألف أوقية من فئة 200 أوقية) جديدة بالكامل كأحلام الشباب، ومعي حملت صوري (صور التعذيب) ومصورتي،ومسجلة متواضعة ولم يكن للأجهزة المحمولة ساعتها أي دور في حياتنا كصحفيين.

 

 كنت أشعر بمرارة كبيرة لسببين:

 

1-     أنني الآن حر طليق وأنا الذي نشرت الصور،بينما العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو وجميل ولد منصور والمختار ولد محمد موسي وراء القضبان بتهمة يعلم الله أنهم منها برآء..

 

2-     أنني متألم لكون أحد الأربعة الذين رفعوا الدعوي القضائية علي هو أستاذي في القانون السنة المنصرمة وأحد أكثر الناس إعجابا به وبأخلاقه، وعلمه (النعمة ولد أحمد زيدان)، وأنني حينما أنظر إلي المرآة لا أري شبها بيني وبين أهل الإجرام كما كان يدرسنا في مذكرته الشهيرة.

 

كانت حركة الزمن بطيئة للغاية ، وكانت الأيام العشر التي مكثتها بعيدا عن الأهل والرفاق في مكان ما من العاصمة نواكشوط أشبه ما تكون بكابوس، لاهاتف يعطي آخر المستجدات، ولا أنيس معه تقضي ساعات الليل الطويلة، ولا خبر عن الداخل، بحكم أن وسيلة الإعلام الوحيدة المتاحة لي هي هيئة الإذاعة البريطانية المشغولة ساعتها بحرب أفغانستان وحراك الشارع في مصر قبل انتخابات البرلمان والتوريث..

 

لكن كنت أشعر مع تلك المرارة بالفخر والاعتزاز بالنفس بعض الأحيان،حينما أسمع الأخبار الواردة من مخافر الشرطة، وآخر معطيات التحقيق مع المعتقلين الثلاثة، ويزيد من عزمي وإصراري علي المضي قدما في الطريق ما علمته من مصادري الخاصة بأن التعذيب توقف عن السجناء، وأن المهندس الحسن ولد أعمر جودة، والأديب سيدي محمد ولد أحريمو، والمهندس سيدي عالي ولد سيد الأمين، وعرفات ولد أحمد باتوا الآن في وضعية أحسن من تلك التي عاشوها قبل خروج الصور للعلن وتداول الإعلام الخارجي لها.

 

مضت الساعات الحزينة، وزال الكابوس الذي خيم لبعض الوقت، وأفرج عن الشيخ الددو وصحبه رغم أن الأمن وأعوانه، ولا تزال تلك المذكرة وصمة عار في جبين المحامين الذي ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أداة للقمع السياسي بموريتانيا،ووجها كالحا للشرطة في حربها مع الصحافة في سابقة خطيرة بتاريخ الهيئة الوطنية للمحامين.

 

اختفت الحقبة السوداء من تاريخ البلد، وغادر معاوية ولد الطايع إلي منفاه الإجباري، وترك خلفه أيتامه من رجال الأمن والمحامين، وبقيت وكالة الأخبار شامخة بتضحيات أهلها، وقربها من هموم الناس،دون ابتذال أو ظلم للآخرين مهما كانت حزازات النفس أو الجرم الذي ارتكبوه.

 

وللأمانة كان لبقية المحامين دورا بارزا في مسار تلك العملية، وكان صوتهم مسموعا ضمن حالة الرفض القائمة، رفضوا باستهجان كبير تصرف رفاقهم، وعبروا بحماس عن التضامن مع الحقيقة والعدالة، ودافعوا باستماتة عن السجناء والمطاردين من أجل الكلمة، وكانوا خير بلسم للجروح النازفة دون من أو أذي ..

 

فلهم منا كامل الامتنان والشكر..

 

 سيد أجمد ولد باب/ كاتب صحفي