ساحة ابن عباس تودع آخر متظاهر وتفتح أبوابها أمام جيل جديد / سيد أحمد ولد باب (*)

لم يك ماحدث فى ساحة ابن عباس يوم الرابع من أغشت 2021  مجرد بداية لإطلاق مشروع جديد داخل العاصمة نواكشوط ، أو استصلاح رسمى لساحة عمومية ظلت محط أنظار تجار القطعة الأرضية، المتاجرين بالنفوذ خلال العقود الماضية، أو بداية لوضع الحجر الأساس لبناء  متنزه جديد، ليكون ثانى متنفس داخل العاصمة لمجمل الهاربين من جحيم البيوت، بل كانت لحظة تحول فى مسيرة ساحة ظلت لبضعة عقود ملاذ الثائرين فى وجه حكم الفرد، وعنوانا لأي تأزيم تعيشه العلاقة بين السلطة ومعارضيها، وساحة معركة فيها تطلق الوعود ويستقبل الأحرار مسيلات الدموع بغزارة كلما ضاق صدر الحاكم أو مال لجبهة التوتير فى حكمه.

 

 

خلال العشرية الأخيرة فقط احتضنت ساحة ابن عباس أكثر من 20 مهرجانا للطيف المعارض، طالبت مجملها برحيل النظام السابق بكل رموزه، وأتهمته بكل أنواع الفحش وسوء التسيير والتخطيط والتدبير (الديكتاتورية والفساد وخنق الحريات وقتل الأمل والعمل من أجل ضرب استقرار الدولة، والعبث بالوحدة الوطتية، وتهجير أهل المال وتهميش الشباب وإقصاء النساء من دوائر صنع القرار).

 

كانت شعارات الرفض وأعلام القوى المعارضة على موعد دائم مع ساحة ابن عباس، وكان شارع جمال عبد الناصر أو الوحدة الوطنية لاحقا، بوابة الوافدين إليها من كل أطراف العاصمة المثقلة بالفقر والتهميش، وفيها أنتهكت كرامة العديد من رموز النخبة السياسية والشباب المناضل على يد رجال الأمن، وصمد آخرون فى وجه البطش والتنكيل (وهم قلة بالطبع) فى ليالى مواجهة عاشها الناس على أمل انبلاج فجر جديد.

 

وفى الساحة ذاتها تقمص آخرون دور الحريص على الإستقرار والتنمية والأمن عبر تنظيم أنشطة شكلية للوقوف فى وجه الثائرين من أجل غد أفضل للبلاد والعباد، والتأكيد على ضرورة استمرار النظام القائم وسحق مناوئيه.

 

وقف الشبخ الجليل أحمد ولد داداه - أطال الله عمره - ذات مساء حالم بالساحة ، وحوله الآلاف من مناصريه مطلقا وعده التاريخى للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بضمان عدم المحاسبة إذا غادر السلطة الآن ودون تردد، وترك الشعب يختار من يحكمه بكل حرية ونزاهة، مؤكدا أن الشعب الموريتانى لن يقبل غدا أو بعد غد بأقل من إسترجاع أمواله وسجن من نهبوا خيراته وشردوا أبناء البلاد، وداسوا على الدستور والأخلاق.

 

كانت كلمات رئيس حزب التكتل أحمد ولد داداه  - العائد للتو من رحلة خارجية - مثارا للسخرية  من مجمل أبواق السلطة ومتحدثيها فى الإعلام العمومي والخاص، وأتهمه البعض بأنه إلى الجنون أقرب من ممارسة السياسية، وتحامل عليه شبان فى عمر نجله أو أصغر يحدوهم الأمل فى قطف وظيفة على ظهر الشيخ الذى شاب فى النضال وترعرع.

 

ولم يكن العقيد اعل ولد محمد فال عليه رحمة الله بأقل بصيرة، وهو يخطب فى الجموع الغفيرة المحتشدة بساحة ابن عباس فى مهرجان "الحادي عشر من مارس" ، حينما طمأن الشعب بأن ما أسماه حالة الاختطاف الحالية لن تعمر طويلا، وأن الجيش الذى يعرفه يحتضن من خيرة الضباط وأهل الحكمة والرشاد ممن لديهم الأهلية لوقف الحالة القائمة وتفكيك بؤر الإحتقان دون خروج على الدستور أو تعريض أمن البلاد وسلمها لأي مخاطر، وأن الوضع القائم كفيل بالقضاء على نفسه.

 

يهتف الشباب الثائر بالساحة فى ليالى الشتاء الباردة " ياعزيز ياغزوانى خلو عنكم موريتانى) فيرد الرئيس السابق لحزب تواصل محمد جميل ولد منصور ورفيقه فى قيادة جبهة الرفض القيادى اليسارى الراحل المصطفى ولد بدر الدين " ليست لدينا مشكلة مع الجيش أو قادته، هؤلاء أبنائنا وأخواننا، ويعانون مما يعانيه الوطن، مشكلتنا مع شخص أختطف الدولة ويحاول تطويع الأمن والجيش والأحزاب لصالح رغباته، ونحن نطالب الجميع بالنأي بأنفسهم عن نظام يحتضر، ومسار لايمكنه أن يستمر بحال من الأحوال، بحكم الرفض الكبير لمنطق الديكتاتورية وعهد الأحزاب الواحدة واحتقار الآخرين، والتحول الكبير الذى يعيشه العالم من حولنا".

 

يوم الأربعاء التاسع والعشرين من أغشت 2018 وقف رئيس حزب التجمع الوطنى للإصلاح والتنمية المعارض محمد محمود ولد سيدى أمام الآلاف من أنصار حزبه بساحة ابن عباس وقد رفع سبابته إلى السماء مبشرا الشعب بحتمية التغيير وانجلاء الأزمة السياسية، ومؤكدا أن الشعب أقوى من سجانيه، وأن الحملة الظالمة ضد الحزب ورموزه والمؤسسات الإسلامية بالبلد لن تضعف من شكيمته، ولن تزيد قادته إلا إيمانا بالمبادئ التى تربوا عليها، وأن رحيل النظام مفروع منه، معربا عن ارتياحه لترجمة سكان العاصمة لشعار المهرجان الكبير (مهرجان الوفاء) إلى حقيقة ماثلة للعيان، ومطالبا قوى التغيير بالتمسك بالوحدة والأمل والدفع باتجاه التغيير.

 

لم تضق ساحة ابن عباس يوما بأحلام مرتاديها، وظلت الحضن الذى يتسع للسكان كلما ضاقت بهم الأرض جراء غلاء المعيشة أو انقطاع الكهرباء، أو ارتفاع البطالة أو أنزاح الأمل جراء إجراءات ظاهرها التحكم فى مسار الأمور، وباطنها تفكيك كل آليات البقاء، وبأسرع مما يتصوره الممسكون بزمام الأمور ساعتها.

 

ومع رحيل الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز عن الحكم، وظهور بوادر الخلاف بين الصديقين السابقين حول فلسفة الحكم وتدبير شؤونه والعلاقة بالآخر وآلية تسيير الأموال العمومية وتحصيلها، تراجع الإهتمام بالساحة الواقعة قبالة أشهر سجون البلاد، وأعرق مساجدها، وأخلف الرفاق مواعيد الغروب، وتنكب الشباب السير فى الدروب الموصلة إليها، وأعاد الأمن تموضع قواته، وبحث باعة الأجهزة الألكترونية عن زبناء جدد، وتراجع الإنفاق داخل الطيف المعارض على تأجير السيارات والباصات واللافتات، وتفرغ سكان الأحياء الشعبية لتدبير شؤونهم اليومية، وتراجعت حمى التنكيت والسخرية من رموز النضال والقيادات السياسية، وتبددت غيوم العلاقة بين السلطة ومعارضيها، وبدأ التفكير فى دوائر الإسكان من أجل إنشاء متنفس جديد داخل العاصمة دون اعتراض،أو احتجاج أو اتهام بتغيير المعالم الرئيسية للعاصمة نواكشوط، أو صدور أي بيانات منددة بتضييق الخناق على حراك المعارضين.

 

(*) مدير موقع زهرة شنقيط