الرمال! / خالد ولد الفاظل

قابلتُ منذ يومين رجلا زار مدينة لعيون شابا يافعا أيام انتخابات (وي ونو) 1958 عندما كانت بذور العمران في بداياتها ثم عاودها الزيارة شيخا كبَّارا. كانت الجملة التي تتردد على لسانه طيلة الوقت رفقة نظرات تعلوها خطوط التجاعيد وحواجب بيضاء هي: " يَذَ من الفناء والعدم ". حتى أنني استيقظت عليه في ثلث الليل الأخير لتغطية وجهي عن لمعان القمر الهابط بقوة من فتحة الباب فسمعته مستيقظا يسامر نفسه ويكرر نفس الجملة الآنفة الذكر: " يَذَ من الفناء والعدم ". يصابُ كبار السن بالزهايمر غالبا رأفة بهم ربما من مكابدة تقلب أحوال الدنيا وآلام الحنين ورحيل المعارف بعقل واعٍ. طبعا الحياة سلسلة حكايات مستمرة إلى حين، وتجارب الشيوخ المدفونة في منظر الرحيل هي بذور ستنمو وتزهر حتما في منظر الوصول المتوهج في عيون الأطفال القادمين بحماس لسبر أغوار الحياة..

لكن أكثر ما لفت انتباهي؛ هو أحاديث الشيخ الخضراء المتعلقة بالبيئة أيامها، عندما وصف منظر قطعان الغزلان وهي تتوارى بين الأعشاب الطويلة وأنواع الطيور والزواحف والوحوش والغابات الكثيفة كأنه أحد معلقي قناة "ناشيونال جرافيك". وفجأة أقبل جفاف السبعينيات متبوعا بمواسم أخرى من إدبار الغيوم، ثم تكاثرت بنادق الصيادين و "حراگت لحموم باط". وأخذت أصابع التصحر تزحف بقسوة رفقة نبتة العشر(انتورجه) الكئيبة وأشجار "گرون لمحادة" البائسة وبات ناي حشرة "بوزيزوان" أكثر حزنا وقلقا على المستقبل البيئي من أي وقت مضى. أذكر نبتة خضراء نادرة الملامح خرجت بين نتوءات أحد الجبال لمحها سياح أوربيون كانوا يأتون هنا شتاءً، فقيل إنهم شاهدوها في ألمانيا وكنا نخفف بورقها الناعم آلام الضرس. زرت قبل أعوام تموضعها فوجدتها ذبلت وجفت وانحنى جذعها اليابس وهو يحملق بأسى في أطراف البطحاء أسفله وقد تقزم سمكها الترابي بسبب ضعف صبيب المياه المنحدرة من أكتاف الهضاب الصخرية..

سمعتُ في ليلة ماضية في التلفاز أحد سكان امحيرث بأدرار يتحدث بأسى عن أحزان النخيل وخروج الشجيرات في مسارات البطاح بسبب ندرة المطر. وعندما رأيتُ تگانت منذ أعوام وهي تخبئ في تلالها خصوبة مندثرة شعرت بحزن عميق وأنا أرى السراب في الظهيرة يتموج على الصخور الممتدة على الطريق إلى تجگجه. وكلما زرت بلدة الأخوال بين بتلميت وواد الناگة ورأيت الكثبان المتوثبة تتطوقها وتخنق عمرانها، استغربت أنها تسمى "بوتيشطاية"، لكن كبار السن يقولون إن الأشجار هناك كانت أغزر والرمال لم تكن بهذا التجانس والتوثب. وكلما رأيت شجرة التيدوم الفخمة أتأسف أنها اندثرت في معظم أنحاء البلاد وأطلب من الله أن تمكث قرونا عديدة في گيدي ماغا وأن لا تعبر النهر إلى الأبد حتى لا تتقفى أثرها ظلال الغيوم والطيور.

عندما تُغتال شجرة خضراء في الوادي، لا تفتح وزارة البيئة تحقيقا في الموضوع ولا تعلن الحداد. وعندما يذهب موظف حكومي ببندقيته يطارد بقايا الغزلان والأرانب المذعورة لا تغضب وزارة البيئة أيضا. وعندما يُستقبل وزير حكومي بقديد الغزلان(تيشطار الوحش) لا يلفت الأمر انتباه الإعلام. وعندنا تختفي فراشات "طالب صلي" الجميلة من ظلال تشرين المبللة بقطرات الماء لا يصبح الأمر موضوعا مقلقا لخطباء الجمعة..

تدهور الغطاء النباتي، ونفوق الأسماك، وتشبع الأتربة بسموم تنقية المعادن من الشوائب، أشياء خطيرة على البيئة ستحول بلادنا إلى قطعة من المريخ. ولن يشعر معظمنا بدموع الأشجار إلا بعد عقود من فوات الأوان هذا إن لم تساعدنا التكنولوجيا الخضراء في النجاة من التصحر وتحول أراضينا إلى قصائد من الرمال تحثو في قلوبنا التراب...

قطاع البيئة لا يقل أهمية عن القطاعات الأخرى..

الصورة المرفقة مأخوذة ذات مساء بعيد من تامشكط..