القبلية - الشرائحية – الطبقية – التفاوت المادي – التفاوت المعرفي – التفاوت الجنساني ...
تقوم الحياة في كل مناحيها على المتقابلين - النقيضين أحيانا، المتصارعين أحيانا أخرى.
الصراع من أجل البقاء الذي فرضته الطبيعة القاسية وشبه العزلة الذين سبقا قيام الدولة الموريتانية أفرزا مجموعة من العلاقات البين-مجتمعية العصية على فهم من ينظر إليها من الخارج. غير أن الواضح أن تلك العلاقات لم تكن في الأصل مبنية على الإقصاء ولا على الازدراء، بدليل أنه لم تسجل ممارسة للعنصرية ولا للكراهية ولا حتى للتمييز؛ فالكل متجانس في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وممارسة الشعائر، بل الواضح أكثر أن الكل كان منصهرا في صراع من أجل البقاء أقرب شبهٍ له بالمفهوم المعاصر هو شطر المبدأ الماركسي الشهير "... من كل حسب قدرته".
لقد نجحت هذه البنية المجتمعية في الحفاظ على الوحدة الدينية التي هو رأس مال المجتمع، وعلى ديمومة الحياة، رغم صعوبة الطبيعة وشح الموارد، والحيلولة دون تشتت المجتمع كما حدث لمجتمعات ودول انقرضت بسبب عوامل مختلفة من أهمها التناحر الداخلي. وكان ينبغي لتلك العلاقات المجتمعية أن تتطور مع الوقت، وخاصة مع ظهور الدولة وبعده، لتتعزز جوانبها الإيجابية وتختفي سلبياتها مع التحول في العقليات والتأثر بالأفكار الجديدة التي انتشرت في العالم وكانت بلادنا في مهبها، كحركات اليسار والقومية والسلفية والاخوانية وغيرها إن وجد. لكن التغير الإيجابي المنشود لم يحصل إلا جزئيا ولم يؤثر في البنية المجتمعية الصلبة إلا قليلا. مما أوجد صراعا ظل لفترة صامتا، يتمسك بموجبه "المستفيدون" – أو بعضهم - بالحفاظ على الموروث، بينما يتطلع "الضحايا" إلى التغيير. وكل محق في موقفه ولا إشكال في ذلك من حيث المبدأ؛ لكن المشكلة تكمن في طريقة استغلال المستفيد للموروث وكيفية مواجهة الضحية له. فمن الطبيعي أن لكل أحد حق الانتفاع من الميراث الذي ترك له سلفه، ولكن يجب أن يكون ذلك في حدود الاستعمال الشرعي وليس على حساب الآخرين؛ وفي المقابل يحق لكل ضحية رفض الضيم، ولكن لا يحق له تحميل الغير وزر ما لم يقترف، "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون".
والدولة بوصفها الناظم للعلاقات الاجتماعية .
والدولة بوصفها الناظم للعلاقات الاجتماعية والسياسية الاقتصادية في إطار مهمتها في الحفاظ على الوحدة والأمن السلام، والطامحة إلى تقوية وتعزيز موقعها داخل المنظومة الوطنية والحلول محل الكيانات والوحدات التي سبقت وجودها كالقبيلة والجهة والإمارة والحلف، كانت مدعوة منذ نشأتها إلى العمل على إرساء علاقات مجتمعية جديدة تقوم على مفاهيم واعتبارات الدولة الحديثة وتكرس مفهوم المواطنة وتُعليها على جميع الانتماءات الضيقة.
يرى البعض أن دولة الستينيات والسبعينيات حاولت التحرر من الأطر التقليدية بالتدرج لإرساء مفاهيم الدولة والمواطنة محلها. ولئن كانت تلك الفترة قد شهدت بعض المحاولات في هذا الاتجاه، خاصة من خلال استعمال الرئيس المؤسس المختار ولد داداه، رحمه الله، مصطلح "الأمة الموريتانية" في أغلب خطاباته، فإن تلك المحاولات كانت خجولة بالمقارنة مع أهمية الفرصة التاريخية التي كانت متاحة في ذلك الوقت لفرض مفهوم الدولة، في ظل هيمنة الحزب الواحد وقدرته على التعبئة والتحسيس، وتمدد الحركات الشبابية الواعية المفعمة بأفكار الكدحة والعمل والمساواة.
وهذه الفترة هي التي قضت فيها أغلب الدول المستقلة حديثا على الشرائحية.
ومنذ نهاية السبعينيات وبداية الأحكام الاستثنائية رسمت الدولة لنفسها موقف حياد سلبي تجاه القضية الاجتماعية وآثرت الصمت خوفا من إثارة مشاكل ليست قادرة على مواجهتها، منتهجة سياسة النعامة. ولعلها تأكدت من عجزها عن التصدي للمد القبلي بعد خطاب النعمة سنة 1986 وما تلاه في السنوات اللاحقة من تغول النفوذ القبلي الذي أفرغ التجربة الديمقراطية الوليدة من محتواها وأصبح المتحكم الرئيسي في مسار التنمية واختيار الحكام وصناعة الأثرياء.
صمت الدولة وحيادها السلبي أفسحا المجال لمن يعتبرون أنفسهم ضحايا الشرائحية لرفع أصوات منادية بالإنصاف، ثم ما فتئت تلك الأصوات أن انتظمت في أطر حركية وسياسية وحقوقية بدأت عملها من الداخل ثم توجهت نحو تدويل القضية الشرائحية التي بدأ أصبح صداها يسمع في الأمم المتحد والاتحاد الأوروبي؛ مما شكل ضغطا على الدولة حاولت مواجهته بسن ترسانة قانونية أصلها في الدستور وفرعها في قانون تجريم العبودية وقانون الكراهية وقانون الرموز.
ورغم أهمية هذه الترسانة القانونية وتطبيقها من طرف القضاء في حالات عديدة، لم تشأ - أو لم تتجرأ - الدولة على الحديث عن موضوع الشرائحية في خطاب علني صريح موجه إلى الداخل – المعني الأول بالموضوع - قبل خطاب رئيس الجمهورية في وادان 2021.
من المعلوم أن شعوب العالم الثالث قطعان سياسية كما يقال، أينما يتوجه رأس القطيع يتبعوه. كلام القائد بوصفه المعبر عن الموقف الرسمي للدولة والموجه الأساسي لسياستها تتفاعل معه القوى الحية في المجتمع بسرعة، وتتسابق في تنفيذ مضامينه، إن لم يكن اقتناعا فتقربا أو لنقل تزلفا، وتتبناه العامة بصفة تلقائية، وتجند وسائل الاعلام لإيصاله إلى من يهمهم الأمر. لكن أهمية خطاب وادان تتجلى، علاوة على ما سبق، في الخصاص التي تميز بها، ومن بينها:
الصراحة في تسمية الظاهرة الشرائحية وفي وصفها: على غير عادة الخطابات الافتتاحية للتظاهرات التي تحضرها الجماهير والتي تمتاز بعمومية الخطاب الذي يراد له ألا يستفاد منه شيء، فإن خطاب وادان قد دخل منذ فقرته الثانية في سابقة تصارحية مع المتلقين حين اعترف رئيس الجمهورية بوقوع ظلم تاريخي على شرائح من المجتمع وعبر أن اسفه لذلك، ثم واصل وصف الظاهرة الشرائحية بعبارات دقيقة من قاموس الشريعة والقانون والمدنية قائلا إن تلك الأحكام المسبقة والصور النمطية تناقض الحقيقة وتصادم قواعد الشرع والقانون وتضعف اللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية وتعيق تطور العقليات وفق ما تقتضيه مفاهيم الدولة والقانون والمواطنة.
ليس خطابا سياسويا: تقوم الخطابات السياسوية عموما (مع التحفظ على هذا المصطلح شائع الاستعمال ولا مرجع يشير إليه) على تقديم الوعود، خاصة إذا كانت تلقى أمام الجماهير؛ إلا أن خطاب وادان خالف تلك السنة فلم يقدم وعودا ولم يرسم صورة ذهبية لواقع المجتمع؛ بل تضمن وعيدا ضمنيا في مناسبتين حين شدد التأكيد على أن الدولة ستظل حامية للوحدة الوطنية والكرامة وحرية ومساواة جميع المواطنين بقوة القانون وأيا تكن التكلفة؛ وحين قال إن الدولة لن ترتب حقا أو واجبا على أي انتماء إلا الانتماء الوطني.
وكما لم يكن الخطاب سياسويا، لم يكن كذلك شعبويا أو خشبيا، بأي معنى من معاني هذين المصطلحين؛ فإذا كان الخطاب الشعبوي يقوم على إثارة الحماس الشعبي وشحن الجماهير وإلهاب حماسهم وتأجيج مشاعرهم من أجل الترويج لفكرة أو قضية، معتمدا على كاريزما صاحبه، فإن خطاب وادان شكل قراءة هادئة، هدوء الرئيس، خالية من اللغة الخشبية لقضية وطنية كبيرة، شخصها الرئيس وتعهد بالتصدي لها، بعيدا عن التحدي والديماغوجيا التي تميز الخطاب الخشبي.
رمزية الزمان والمكان الذين ألقي فيهما الخطاب تضفي عليه رمزية خاصة وتوفر له سياقا طبيعيا؛ فالمناسبة هي مهرجان الثقافة والتقاليد واستنطاق التاريخ، وقضية الشرائحية هي بامتياز قضية ثقافية وتقليدية وتاريخية.
ويبقى السؤال الآن: ماذا بعد خطاب وادان؟ أبان الخطاب عن موقف رسمي واضح مفاده أن الدولة ليست - أو لم تعد - شريكا في أي إخلال بالتوازن الاجتماعي، ولا شك أن السواد الأعظم من المجتمع سيجاريها في هذا التوجه؛ وأنها من جهة ثانية، ماضية في حماية الوحدة الوطنية والكرامة والحرية والمساواة بقوة القانون مهما كلفها ذلك.
وبفضل سلطة الدولة وامتلاكها جميع الوسائل الموصلة إلى مبتغاها، سيكون في متناولها، وبتكلفة غير مجحفة، فرض قيم المواطنة على الفلول التي ما زالت ترفض الإيمان بدولة القانون والمؤسسات التي لا سبيل إلى ولوجها، كما لا سبيل إلى أي إقلاع اقتصادي، إلا من باب المواطنة الصالحة.
على الدولة من الآن أن تبدأ الخطوة الأولى من مسيرة الألف ميل !