سال حبير كثير حول تصريحات الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" التي أشاد فيها بجو الاستقرار الذي تشهده موريتاينا، وبقدرتها على بناء جيش قوي قادر على حفظ أمن البلاد واستقرارها.
وقد جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي ، في فترة حرجة من تاريخ منطقة الساحل، حيث تستعد القوات الفرنسية للرحيل من جمهورية مالي بعد تسع سنوات من الانتشار فيها، ومقارعة الجماعات الإرهابية هنالك، في حين تُقبل المنطقة على منعطف جديد تشيب الولدان لهول عواقبه المحتملة، مع تأكد الأنباء التي تتحدث عن صول مرتزقة "فاغنير" الروسية، وتتركز الأنظار والتحاليل حول موريتانيا الآمنة المتستقرة.
لكن السؤال الذي غفل عنه كثير من تلك الأقلام، أو تجاهله بعضهم عمدا وجحودا، واستيقنت به أنفسهم ظلما وعلوا، هو من أين لموريتانيا بهذا الأمن؟ وأنى لها بجيش ضامن للاستقرار والهدوء في منطقة تفور بالحروب، وتمور بالصراعات وأعمال العنف منذ أكثر من عقد من الزمن؟.
لقد كانت آخر هجوم إرهابي على الأراضي الموريتانية في شهر يوليو عام 2011، حين شن عشرات المقاتلين من تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي هجوما على القاعدة العسكرية الموريتانية في مدينة باسكنو بأقصى شرق البلاد، وهو الهجوم الذي أنهاه الجيش الموريتاني بسرعة وأعاد المهاجمين إلى أوكارهم في عمق الأراضي المالية، بعد أن تكبدوا خسائر فادحة، قرروا بعدها أن لا عودة إلى موريتانيا.
اليوم يدرك الغربيون ومن ورائهم الأفارقة، أن أفضل من تركن إليه المنطقة في محنتها المُستجدة، وتنظر بثقة واعتماد إلى تجربته، وتتطلع إلى رأيه ومواقفه في التطورات الجارية، هو تجربة الجيش الموريتاني خلال عقد ونيف، كانت فيه جمهورية مالي المجاورة تعيش حالة اضطراب متصاعد، بدءا بتقاسم جماعات متمردة (MNLA و المجلس الأعلى لوحدة أزواد) السيطرة على شمال البلاد، مع جماعات أخرى تصنف بالإرهابية (القاعدة، وجماعة التوحيد والجهاد، وأنصار الدين، وكتائب مساينا) ثم تلت ذلك الحرب الفرنسية على تلك الجماعات عبر عملية "سرفال" ثم عملية "بارخان"، ولم تسلم النيجر ولا كوت ديفوار ولا بركينافاسو ولا حتى الجزائر من هجمات تلك الجماعات، حيث احتُجِزَ الرهائن وهوجمت الفنادق والمطاعم والمصانع، وذاقت اتشاد من نفس الكأس على يد مسلحي بوكو حرام،
لكن موريتانيا ظلت بمأمن من تلك الهجمات، رغم اشتعال المنطقة من حولها، لأن جيشا منظما تم بناءه بهدوء دون صخب أو ضجيج، على يد اللواء محمد ولد الشيخ الغزاني، بعيدا عن أضواء زائفة ودعايات كاذبة، زينت أفكا وزورا مساوئ عديدة عانت منها قطاعات شتى وميادين مختلفة في مسار الدولة الموريتانية خلال العشرية الماضية.
فحوله من جيش متواضع العدة، هش العتاد، رخو الاستعداد، إلى جيوش متعددة (برية وبحرية وجوية)، منظمة ومسلحة، قادرة على حماية الحوزة الترابية وضمانةٍ لأمنها واستقرارها، فكانت نيران الجماعات الإرهابية وجماعات التمرد تقدح في كل المنطقة ويكتوي بها الجميع بلا رحمة ولا رأفة، بينما ظلت موريتاينا استثناء من ذلك، لأن الإرهابيين استنبطوا من أخر هجوم لهم على الأراضي الموريتانية (هجوم باسكنو) أن استفزاز جيشها سيكون باهظ الثمن، مؤلم العواقب.
هذا ما أدركه الفرنسيون والغربيون عموما والأفارقة من بعد ذلك، فكانت تصريحاتهم وإشاداتهم موجهة إلى القائد السابق للجيش والرئيس الحالي للبلاد، فهم أعلم الناس بمن بنى ذلك الجيش الذي حمى الحدود وأمّن الأوطان، ومن نظمه ورفع شأنه وأعلى شأوه، وهم المدركون كغيرهم، أن من بنى جيشا قادرا على ضبط الأمور بحرفية كبيرة، وتسييرها بصرامة حكيمة، وقودة هادئة، في ظل دوامة تتعاورها اضطرابات وحروب على الحدود لا تبقي ولا تذر، وفساد وفوضوية وسوء حكامة في الداخل، سيكون أقدر على حماية الأمن وضبط الاستقرار حين أتيحت له قيادة البلد بأسره، بعيدا عن مزايدات أباطرة الفساد المراوغين، وغلاة الشَّعبويين الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.