أنهيت للتو قراءة مذكرات العلامة الجهبذ الوالد الشيخ الدكتور محمد المختار ولد اباه وعند ما فكرت في عنوان مناسب لتعليق يقصر - دون شك - عن بلوغ عتبات بيانه وجميل أدبه، تذكرت قول الله تعالى واصفا نبيه إبراهيم عليه السلام: "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم".
لقد استمتعت حقا بهذه السيرة العطرة وذلك السيل الزاخر من الأعمال الصالحة والجهود الخيرة الخالدة فأنت هنا أمام شاب ترعرع في بيت عز وفي "فمه ملاعق ذهب زمانه " ... فتى يجر الذيل تيها - في معرس أشياخ مهذبة طهارى ..
قرر أن يكسر الرتابة و يلتحق بركب الأمم المغذة نحو التقدم والرقي فحقّرت الهمة بين عينيه كل مطمع وناوله الطموح كل صعب وحالفه التوفيق في كل عسير .
انتفض هذا الشاب يبتغي المجد والأجر وبناء الذات ومنافع الأمة فكان محراثه ومقلاعه القلم والقرطاس بحيث تحول في زمن محدود إلى موسوعة للمعارف وحاضنة للمهارات وتدرب على كل ما جال في همته العلية من ألوان المنافع المعرفية والمهارات.
نحن هنا أمام أديب حساس يحنو حتى على الحيوان ولديه تلك القدرة على تجسيد المشاعر تجاه الجمل صحبة ومحبة واعترافا بالجميل.
ذلك الجمل الذي كان يحمل هذه العقلية المتمردة على رتابة الواقع فيهيم صاحبها في مناكب الأرض منطلقا يكتشف الحياة ويمارس هوايته في معاقرة الجديد ويحلم
- فإني لمقدام على كل مهمه
يتيه به لو كان يغشاه رافع ..
هذه الذكريات تميزت بالصدق والعفوية فلم يرسم صاحبها لنفسه روحانية راهب في إهاب ملاك ، بل كنا أمام شاب يكتشف الحياة من واقعه البدوي الذي يحتاج الوقت العادي لتبدل الطباع واكتساب فقه التحضر انظر إلى قصة دهان اللِّمة ومضمضة الفم من "حارورات" لم يألفها .
هذا الشاب يذكر أيام المباح من اللهو (اسرند )وغيرها من جوانب الامتاع والمؤانسة وظل مسيره المبارك الجاد يحتفظ بجوانب من الخُلطة والهوايات الذاتية المعبرة عن تطلع النفس البشرية العادية التي لم يكبتها الشيخ ولم يفتعل خصومة بينها وبين لذائذ الحياة ومباح المكتسبات نادي الطيران وغيره من أندية الأدب مثلا ..
من اللافت غرام الشيخ المبارك بالتنقل والسفر الدائم والمشي في مناكب الأرض بين دول العالم وعواصم التحضر والمعرفة الأمر الذي أكسبه اطلاعا وتفاعلا مع عوالم وثقافات ومعارف لاحد لها .
كأن ابن زريق يعنيه بقوله
ما آب من سفر إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالعزم يزمعه
تميزت المذكرات بإبراز شخصية ذات قدرات فائقة ليس في فنون العلوم والمعارف ولكن في الإبداع وقوة الاقتراح وإيجاد الحلول وعدم الرضى بالدون، إن عرض الشيخ أثناء ركوبه السفينة حاجا تقديم خدمة مقابل درجة مريحة لهو إبداع وانتباه قلَّ من يفطن له في مثل تلك الحالات.
في المذكرات نجح القلم السيال للشيخ في عرض هذه الشخصية الفذة وجوانب اهتماماتها المتنوعة والتي هي بأمة، شخصية العالم المحدث الفقيه الأصولي الأديب المؤرخ، المدرس الخبير، المترجم السياسي المحنك الدبلوماسي الحاذق الاطار الفني الطياَّر الذي العمل بدقة بين المخاطر وأتقن طرائق التأسيس وصنوف التشييد.
إلا أن الشيخ تميز في الأدب النثري تميزه في المنظوم وكان احتكاكه بمجامع اللغة ونوادي الأدب الحديث باعث لصقل هذه الموهبة كأننا أمام محمود محمد شاكر والقلة من أمثاله من العلماء الذين جمعوا بين العلم وأدب (الكاتب )الماتع يظهر ذلك جليا في فيض عواطفه المسجل حول المشاعر المقدسة وفي الروضة المشرفة تلك الدار التي شرفت وتاهت على شام المواطن والعراقي ).
كما أن تحليله خصوصا لنصوص الشاعر الكبير أحمدو ولد عبد القادر أبان عن قدرات فائقة من استنطاق النص وسبر أغواره بأدب ماتع رقراق يفيض عذوبة وإمتاعا ..
أبانت المذكرات عن انشغال الشيخ بقيمة الزمن عند العلماء حسب تعبير عبد الفتاح أبي غدة فهاجس الشيخ التعليم والتعلم ولك أن تتخيل ما يلح على ذهن المعتقل أثناء المسير نحو المجهول ، إلا أن صاحب المذكرات منشغل بهموم التعليم وهل يتاح له محو الأمية الحضارية والفكرية عن من سيخالطهم في السجن بذلك لا تضيع الحياة ولا يستوحش من عزلة ..
كان من روائع الشيخ تلك اللفتة من عارف روحاني يقرر نيل الحرية وذلك بالشعور بها ، ولو وسط القيود وتحت أفواه البنادق .
ذكرني ذلك بما كتب صاحب الظلال رحمه الله عند قوله تعالى "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها "..
هذه الشخصية التي تفعل ما تراه مناسبا بدون قيد من سطوة المجتمع الذي ينبز أهل الإبداع ويتحامل على كل جديد غير مألوف، لذلك اقتنى الشيخ الطائرة في بواكير زمنها وبها يسر على نفسه وغيره التنقل وكان الشيخ أكثر جرأة في ذلك الزمان منا في هذه الأيام.
كان معي صديق عَلم أنني مهتم بجلب جهاز يفتح باب "الكراج" ويغلقه بمجرد اللمس عن بعد يوفر الوقت ويدرأ المخاطر الأمنية لمن يدخل بيته في وقت متأخر فبذل صاحبي جهدا من النصح والتثبيط وكان رأيه أن الجهاز سيكون حديث الناس واستفزازا للجيران ونوعا من الترف الذي لا حاجة إليه ..الخ.
كان الشيخ أمة في جهوده في التأسيس للمناهج والمعارف ودور المعلمين والأساتذة ومراكز العلم والمعارف والمنظمات والجامعات وأسس لمحاضن الثقافة الأصيلة وفي ذلك السبيل شيد ووسع وترك أثرا سيقولون عنه مر وهذا الأثر.
أعطانا الشيخ نموذجا للعالم الذي يحمل هموم الأمة وقضايا الهوية فهو وإن تعامل مع الحكام وعمل من داخل دوائرهم إلا أنه يبقى لهم ناصحا وعاملا مخلصا لأمته ولدينه لا يجامل في بناء ثقافته والدفاع عن حماه وأصوله ،
خذ مثلين على ذلك: جهده في الجامعة الاسلامية بالنيجر والذي كلفه التضحية بوقته وصحته كي يخدم الثقافة الإسلامية ويبقي على جذوة لها في القارة السمراء وما عاناه في سبيل ذلك .
الثاني موقفه مع الرئيس معاوية الذي فرض عليه اعتماد جائزة للثقافة الإسلامية تشجع على البحث والتطوير في ذاك المجال مع أن جمعا من المعاونين للرئيس يومها كانوا شركاء يرتجفون فرقا من ذكر ما له صلة بالاسلام .
كما أن موقفه من القضية الفلسطينية كان صلبا وقويا برع في الدفاع عنه والتفاوض مع الأروبيين في سبيله.
يمكن أن نقول إننا أمام شخصية تمتلك الرؤية والجرأة وتقدم إقدام الأتي ، غير مبالية بما يترتب على القناعة، ترفع شعار
فلا الإقدام يجلب ما كفينا ولا الإحجام يصرف ما نلاقي
في الحقيقة لا يسع الانسان إلا أن يحتار في التوفيق الذي واكب الشيخ حتى أنجز الترجمة النادرة لكتاب الله تعالى والتي أخذت طريقها إلى المطابع ثم أيدي الباحثين والمحتاجين من المسلمين وغيرهم .
وكذلك هذا الصرح العملاق شكلا ومضمونا الموسوم بجامعة شنقيط بمنهجيته وأهدافه التجديدية التأصيلية .
لي أمنية وسؤال : أما الأمنية فهي أن ينسق الشيخ المبارك مع الجهات المختصة كي ينطلق المشروع الذي كان قيد الدراسة والمتعلق بمجمع اللغة العربية في موريتانيا وذلك بما يناسب وقت الشيخ وحالته الصحية أطال الله في عمره.
قال في آداب المريد ولا يمنعنك احترامه وتجلته من أن تطرح بين يديه ما تراه وعن لك وأن تفرغ ما في نفسك فهو الطبيب وأنت المعتل ..
كان اجتهاد الشيخ هو العمل من خلال الهامش المتاح في الخمسينيات وناقش في ذلك ودافع عن رأيه وأفحم ..
أفلا ترون سيدي أن الرئيس المختار كان مصيبا في صبره على لأواء تلك الفترة حتى تتخلص البلاد من الاحتلال الفرنسي خصوصا أن حكومة الإطار جاءت في سياق توجه فرنسي واضح للتخلص من المستعمرات باستثناء الجزائر ؟ .
كتب صلاح أبو اسماعيل رحمه الله في مذكراته قائلا نزلت بالمطار فإذا خيرة من أعرف من العلماء والدعاة وأهل الجد يجتمعون في المطار فقلت أي أرض هذه التي تشرف بسفركم إليها أكيد أنها مكة ، فقالوا نحن قدمنا لنستقبلك ونشيد لأننا لم نكن قرأنا كتابك الشهادة )
أحيانا يوفق مكتوب في لفت الانتباه وتجسيد شخصية استثنائية كالذي حصل في مذكرات العلامة محمد المختار الذي ابان عن هذه الانجازات والملاحم الاسطورية في بذر الخير وزرع المعروف لا يبالي بالصعاب
وعقدة العزم مني لا يحل بها حل إذا حل عزم محكم العقد.
محمد غلام الحاج الشيخ