على ضفاف نهر النيجر، وغير بعيد من قبر الشيخ "لوبو" اعلن وجهاء الفلان تأسيس أول حركة جهادية ذات طابع عرقى بالمنطقة الواقعة بين "بحيرة أديبو" و"موبتى"، مستفيدين من صحوة اسلامية غرستها أيام "التوحيد والجهاد" المحدودة فى المنطقة والمصنفة اقليميا ودوليا ضمن دائرة الحركات الإرهابية، وارث اسلامى جهادى يمتد إلى أكثر من قرنين من الزمن، بعد أن شهدت المنطقة ذاتها حركة "ماسينا" بقيادة "أمير المؤمنين أحمد لوبو" كما يلقبه أتباعه وحلفائه من أنصار "الشيخ عثمان فودي" أشهر علماء وأمراء الفلان عبر التاريخ.
كان الخامس عشر من يناير 2015 يوما استثنائيا بالمنطقة الخاضعة للنفوذ الفرنسى حاليا، والعبث البمباري المسنود بقوة الدولة وضعف العدالة فيها.
لقد شكل الفلان "حركة تحرير ماسينا" مطلقين أول حركة عرقية جهادية فى المنطقة منذ قرنين، مستلهمين تجارب معاصرة باتت أكثر مزعج لدول القارة، وأخرى قديمة تعتبر "أيقونة العمل الإصلاحي" لدى جماهير الفلان المضطهدة في أكثر من بلد افريقى.
كان اعلان الحركة قويا وصادما للماليين كافة، والقوات الأجنبية العاملة فى المنطقة خاصة، لقد احتلت حركة تحرير ماسينا "تننقو" في السادس عشر من يناير 2015 معلنة عن أول عملية لها ضد الحكومة المركزية فى باماكو، وبسطت نفوذها على المراكز الإدارية والأمنية بالمركز لعدة ساعات، قبل أن يغادر مقاتلوها المنطقة إلى أحراش وغابات "ماسينا" ودفئ المجموعة الحاضن للعمل الجهادى بمالى، بعد أن استباحت عصابات "البمباري" ديار القوم لشهور دون محاسبة، لقد كانت التصفيات العرقية بعد انهيار إمارة أنصار الدين وخروج التوحيد والجهاد صادمة للسكان، لقد فقد الفلان خيرة شبابهم في مجازر جماعية نفذتها عصابات "أهل الأرض" وغيرها من جموع الحشد الشعبى التى تأسست بعد الهزيمة النكراء للقوات المالية وسقوط "تساليتي". لقد تحول آبار "سفاري" و"تننقو" وغابات "غاو" إلى مقابر جماعية وقودها شباب الفلان المتدين، والمتهم رسميا بالتعامل مع القاعدة وحلفائها، دون تدخل من الفرنسيين ، أو حراك من القوات الإفريقية المكلفة بحفظ الأمن فى الشمال المالى.
ترى حركة تحرير ماسينا وهى تخط أولى عملياتها العسكرية أن الهدف من تأسيسها بعد قرون من الهدوء والعيش خلف أخفاف البقر وسنابل الزرع هو تحرير المنطقة التي تضم أجزاء واسعة من وسط وغرب مالي إضافة إلى مناطق حدودية مع كل من بوركينا فاسو وساحل العاج وإقليم أزواد.
لقد تحول حراك الجهاديين فى الشمال المالى إلى حراك عرقى، وتاهت سفينة المقاتلين الإسلاميين بين أصيل يتلمس تحرير أرضه، ويحابى شيوخ العشائر، وبين غريب تترصده طائرات فرنسا وتقنصه شراك عملائها و بعض المتعاونين معه من سكان "تيمبكتو" أيام الإمارة التى أعلنتها حركة أنصار الدين ذات الصبغة الطارقية سنة 2011 واستمرت قرابة العام فى تيمكتو وكيدال ومنكا وبعض أطراف "غاو" أهم معقل لدى حركة تحرير "ماسينا" اليوم، كما تقول خارطة العمليات العسكرية التى اعلنت عنها قبل أشهر.
جذور فكرية وعرقية
تستمد حركة تحرير ماسينا جذورها الفكرية من الدعوة السلفية التي أطلقها ابن المنطقة "الشيخ عثمان فودي" سنة 1795 ، فى المنطقة المطلة على نهر النيجر اليوم، ورسخها ضمن سلسة كتب ومحاضرات ملأت حوض النهر، وكان لها أثر كبير فى قرية "تغل" التى ولد بها، قبل أن تنتشر بشكل سريع فى منطقة "غوبر" بالكامل.
تحول الشيخ عثمان فودى من منظر سلفى يدعو إلى تحرير الفلان من شوائب العقيدة إلى مقاتل يكافح من أجل فرض قناعاته الفكرية وحماية المجموعة القبلية التي ينتمى إليها، بعد أن قررت القبائل الأخرى منابذتها العداء بفعل دعوة العالم الشاب الذي التفت حوله جموع الفلان .
لقد كان شيخه " الشيخ جبريل" أول من سارع لمبايعته على الجهاد، بعد أن ساهم فى تكوين شخصيته السلفية، وتربى على يديه في كتاتيب "تغل" بمنطقة الحوض، وهى بيعة حولته من شاب متحمس ومتدين تحبه الجماهير إلى شيخ قومى تدين له الرقاب.
لقد شكل كتاب الشيخ عثمان فودي "نور الألباب" أول مفاصلة بينه وبين قبائل "الهوسا" بعدما صنف ثلثي سكان المنطقة من الكفار، ضمن تقسمة كانت لها تداعيات خطيرة على السلم الأهلى، وعجلت بالمواجهة المسلحة في منطقة "ماسينا".
كان أتباعه من النساء أكثر من الرجال، وكانت محاضراته طيلة السنوات الأولى من ظهوره محل تقدير واعجاب من العامة، وكانت "الموشحات الدينية" القادمة من الأندلس، وبعض الأشعار المحلية أبرز سلاح استخدمه لجلب التعاطف وترسيخ أفكاره السلفية فى محيط معقد من ناحية التفكير والممارسة.
لكن الأكثر غرابة فى تاريخ الشيخ الفودي هو دعوته للهجرة إلى منطقة زراعية قريبة من نهر النيجر، وتأسيس دولة اسلامية تحكمها الشريعة، وتعتبر العربية لغتها الرسمية، وهى الدعوة التى استجاب لها الآلاف من الشباب والنساء فى مشهد هز الإمارات الحاكمة فى المنطقة، مؤسسا بذلك أول امارة اسلامية من الفلان .
غير أن سلمية الشيخ فودي لم تقنع رفيقه بل تلميذه المعجب به حد التقليد فى الخطاب والزي "أحمد لوبو" الذى أسس أول حركة اسلامية مقاتلة بمنطقة نهر النيجر، وسمى هو الآخر نفسه بأمير المؤمنين.
دخل "أحمد لوبو" فى مواجهة مبكرة مع قبائل "البمباري" و"الماندجو"، وكانت سهول ومزارع المنطقة أبرز ميدان للمواجهة شبه الأسبوعية بين الطرفين.
وقد تأثر الأمير الجديد بالحركة الإسلامية فى "سوجوتو" وراسل خليفتها "محمد بلو" 1817 ، رافضا في الوقت ذاته مبايعة الخليفة أو دفع الضرائب له، مع الاسترشاد بأفكاره وكتب الشيخ عثمان فودي الذى كان حديث الساعة هو وحركته الإصلاحية.
وقد دخل الأمير الشاب فى مواجهة مسلحة مع أمراء المنطقة، واضطر للفرار منها والاستقرار قرب "تيمبكتو" حيث أسس مدينته الجديدة "حمد الله" التى حولها إلى مقر لدولة ماسينا الإسلامية، وكان شيوخ العلم فيها هم السادة، ولهم خصص الأمير مزارع ضخمة، وكلفهم بتعليم الناس وتدريس تعاليم الدين الإسلامي.
تحدى أمنى لدول الساحل
لقد تحولت حركة تحرير ماسينا إلى أكبر تحدى تواجهه للقوات الفرنسية والإفريقية العاملة فى مالى منذ انهيار حكم أنصار الدين، وباتت مناطق الفلان مسرح عمليات نوعية للحركة، خصوصا فى منطقة "تننغو" و"جوارا" و"نمبالا"، مستخدمين آليات تقليدية "الدراجات النارية" ومستفيدين من
عنصر المباغتة، والاحتضان الشعبي الكبير الذى يحظى به المقاتلون الذي حكموا تلك المدن من قومية الفلان ابان سيطرة أنصار الدين.
لقد تحول عشرات الشبان الجهاديين ممن تعاونوا مع الإمارة المطاح بها على أيدى الفرنسيين، إلى رسل محبة وعدل فى نظر الفلان، بعد أن داست القوى الإفريقية والجيش المالى أسس العدالة والتعايش السلمي، وتحولت حرب استعادة الدولة إلى حرب اضطهاد واستغلال وتجارة يمارس "البمباري" أبشع أنواعها فى مدن الشمال المحاصر، دون أن تشرك قوى "الفلان" فى الحوار الدائر بين الطوارق والحكومة، كما لم تنعم قري المنطقة (منطقة ماسينا) بالهدوء منذ خروج المقاتلين الأجانب منها.
لقد نقلت الحركة الجديدة المعركة إلى الجنوب، وباتت مجمل المناطق المالية على موعد شبه شهرى مع عمليات نوعية لمقاتليها.
ففي الثاني والعشرين من ابريل 2015 تمكنوا مسلحو الحركة من الدخول إلى "دوغا" بدائرة "يوارو" واجهزوا على شيخ القرية وبعض مرافقيه، بعد أن اشتهر فى الفترة الأخيرة كأحد أبرز المحرضين عليها، لقد تم سحله فى الشوارع أمام المارة دون تدخل من الحرس أو الجيش، واكتفت الحكومة المالية بالتنديد والتعهد بمحاسبة القتلة دون جدوي، لقد تواري شبان حركة ماسينا خلف الأشجار، وهو يستغلون دراجات بخارية من النوع المستخدم بكثرة فى الجنوب المالى.
وفى العاشر من مايو 2015 هاجم مقاتلو الحركة قرية "تنتيلو" القريبة من تيمبكتو، وعمد المهاجمون إلي قطع الاتصال عن القرية والعبث بمكاتبها الإدارية بعدما لاذ الإداريون وبعض عناصر الدرك بالفرار لحظة دخول المقاتلين الإسلاميين إليها.
لقد اثبت مقاتلو الفلان أنهم الأقوى عند المواجهة رغم حداثة النشأة وضعف التسليح، والإمكانيات المادية الخفيفة التى ظهروا بها فى مجمل العمليات القتالية التي خاضوها منذ تأسيس "حركة تحرير ماسينا" قبل أشهر.
ولعل سيطرة الحركة على مدينة "النواره" الحدودية مع مالى لبضع ساعات، ونهب الدوائر الحكومية، وقتل بعض عناصر الدرك ، وفرار البقية، يكشف مستوي الثقة فى النفس المتعاظمة لدي مقاتليها، وعجز الدولة المالية عن استيعاب المد الجهادى الجديد، بعد أن كانت النزعة العرقية أبرز محرك استعملته باماكو فى حشد التعبئة الإفريقية والدعم الدعم الدولى، وأكثر عامل تم بموجبه احباط العديد من العمليات العسكرية التى قادتها القاعدة أو أنصار الدين أو حركة التوحيد والجهاد، لكن الأمور تبدو الآن أكثر تعقيدا من ذى قبل، لقد بات القتال بين القوميات الزنجية، وبات الإسلام أبرز عامل مستخدم فى المواجهة، مع حضور عرقى ضمن مد الجهاديين الجدد بالمقاتلين، بعد أن بالغت دول المنطقة فى التفريط بمكون رئيسي، صبور على السلمية، لكنه يبدو الآن وكأنه على القتال والمواجهة أكثر صبرا من مجموعات أخرى احتكرت القوة العمومية وموارد الدولة الوطنية، وحاولت فرض القبيلة والعرق بدل المواطنة والمساواة بين الجميع.