عندما اختار المهندس الأشيب أحمد ولد مباله ضاحية غير مأهولة في العاصمة نواكشوط غربي طريق نواذيبو لبناء منزله الذي شاده على مدى سنوات، كان بعض أصدقائه يتندرون بأنه ما زال يحمل نفسا من زمهرير مدينة تمبدغه، أيام قيظ الصيف في عقدي السبعينات والثمانينات، وأنه لما يتخلص بعد من الحساسية المفرطة تجاه الحر، رغم سنوات صقيع أوروبا. لكن العارفين بالأربعيني الهادئ يدركون أن الشعور بالفرادة من دون صلف، والتوغل الهادئ في أعماق القضايا والملفات سمة في شخصية المهندس السياسي.
من مرابع صباه في تمبدغه تعلم ولد مباله مبادئ العمل السياسي، من خلال السير الشفوية لرجالات العاصمة السياسية للحوض الشرقي؛ ففي بواكير حياته طرقت سمعه قصص العلاقة التاريخية بين أسرة العلم والتصوف التي ينتمي إليها وأسرة الإمارة والحكم التي انتبذت لنفوذها رقعة على تخوم إمارات ومشيخات سبقتها إلى الوجود، والنفوذ، لكن نهجها المتفرد وحنكة قادتها السياسية جنبتها غوائل الاستئصال المبكر.
سكنت الفتى نفس الفتى أحمدو خميرة وعي سياسي مخلوط بنمط تدين زاوج في براعة بين ميراث التصوف، مثلها ببراعة الشيخ محمد المختار ولد مباله، الذي رضي عنه الحركيون والمتصوفة، ومراجع الفقه التقليدي. مع غير قليل من الوجاهة السياسية والاجتماعية، والكياسة الفقهية، ووضوح الموقف السياسي، والفكري.
ينتمي مرشح تواصل على رأس اللائحة الوطنية إلى الأجيال الوسطى من أبناء الحركة الإسلامية في موريتانيا، وإلى مهاجرتها نحو الغرب في عقدي التسعينات والألفينات، وهي أجيال صبغت بمسحة فكرية عملية، تقترب من علمنة الخطاب الإسلامي، لندرة، أو قلة انشغالها بالخلافات الفكرية التي كانت السوح المدرسي، والمسجدية في موريتانيا مستقرا لها.
إنهم يعيشون نمط حياة قريبا من مجتمعهم الذي يعيشون فيه، بقلوب متشبعة بروح الإسلام ومعاني الانتماء لأمته. يمثلون نسيجا مختلفا عن المجموعات التي نشطت في ساحات الدعوة ومقارعة التيارات الفكرية في المنابر، وتشبعت بـ"الفكر التعبوي" خلال مسيرتها الحركية.
كان ولد امباله ضمن مجموعة من الشباب في أوروبا وقع عليهم عبء العمل التعبوي للإسلاميين، أيام انتقال ثقل المواجهة مع نظام الرئيس الأسبق إلى المهاجر الأوروبية، مما أكسبه دربة على التعاطي مع الشأن الوطني، وكان ينظر إليه من بين أقرانه على أنه من أكثرهم التصاقا بالشأن المحلي، وألفة لطبائع الموريتانيين، وفهما لمنطقهم السياسي، بعيدا عن مثاليات وأحلام الجاليات المهاجرة.
جعلت منه تلك الظروف اسما ثابتا في المشاريع التي رعاها مغتربو التيار ، أو كانوا جزءا منها، إبان تلك الفترة؛ فمن منبر الإصلاح، إلى المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، إلى موقع الأخبار، إلى مبادرة من أجل موريتانيا، إلى الائتلافات المعارضة في الخارج، كان ولد مباله واحدا من التشكلة الثابتة في الواجهة أو في مجموعات الدعم، والتخطيط.
مع مجيء الواجهة الحزبية للتيار الإسلامي "تواصل" كان ولد مباله قد بدأ عدة العودة إلى موريتانيا، حاملا معه تجربة الدراسة والعمل الحركي والسياسي في الغربة؛ فتبوأ مكانا بين القيادات الشبابية للحزب، وعرف بالصراحة في إعلان رأيه، مع الانسجام في التوجهات العامة.
ظل اسما ضمن العشرة البارزين في القيادة المركزية، وحافظ على توازن في العلاقات بين أطراف الصراع داخل الحزب؛ كان من بين "أصحاب جميل" الذين ظل لهم مكان في الحزب أيام خلفه ولد سيدي، رغم خفوت حضوره لصالح آخرين من جيله كانوا أقرب إلى مزاج القيادة القائمة.
في كل استحقاق حزبي داخلي يتم تداول اسم ولد مباله، كواحد من الدائرة الضيقة من القيادات الحزبية، وهو عضو دائم في اللجان التحضيرية لمؤتمرات الحزب. رأس اللجنة التي حضرت للمؤتمر قبل الأخير، وفي ذلك المؤتمر غادر ولد منصور القيادة، وخلفه محمد محمود ولد سيدي، قاد ملف العمليات الانتخابية لولد بوبكر بنجاح وحافظ على علاقات متميزة مع المرشح عززها ثقته بأدائه وإعجابه بكفاءته.
وبعد خمس سنوات تفرغ فيها جزئيا لعمله الخاص، مخففا من الحضور في الواجهة الحزبية، مع الاحتفاظ بمقعده في المكتب التنفيذي للحزب، فهو كما يقدم نفسه واحد من "منيفرات تواصل"، يعود ولد مباله من بوابة قيادة اللائحة الوطنية حاجزا بذلك مقعدا مؤكدا في البرلمان القادم، إلى جانب فريق برلماني لحزب تواصل يخوض التجربة للمرة الأولى، في سياسة تناوب يصر عليها الحزب الإسلامي، حسما لجدل التجديد، وتوزيعا للمغانم.
رغم ضمور الجدل الفكري في دوائر القيادة في تواصل، واستنكاف أغلب متعاطي الأفكار المجردة عن الصدارة الحزبية، إلا أن ولد امباله من بين القيادات الحزبية التي تحتفظ بعلاقة مع "الكتاب الإسلامي" يعرفها من يزورون منزله في العاصمة نواكشوط.
لا يعرف الرأي العام الوطني الكثير عن ابن مدينة تمبدغه، كثير الصمت، لكن الرأي العام التواصلي يعرفه بدقة، وإن اختلفت نسبة المحتفين بترشيحه في صفوف المناضلات عنها في صفوف المناضلين. يعرف التواصليون والتواصليات بعض آراء ولد مباله في الملفات التي تشكل مثار جدل داخل الحزب؛ مثل التعاطي مع النظام السياسي، ومستوى المعارضة، وملف الوحدة الوطنية، كما يسميه قادة في الحزب، والملف الشرائحي، كما يسميه آخرون، أو ما يعرف في أدبيات الإسلاميين بملف الأخوة؛ بشقيه: قضية الرق ومخلفاته، والتعددية العرقية واللغوية.
ويعد ولد مباله على موقف وسط بين التيار التقليدي المحافظ فكريا بشأن هذه الملفات والتيار التحررى، لكنه من ناحية المعالجة العملية أقرب إلى رئيسه جميل منصور، و"تقدميي تواصل" فهو بهذا يرضي المحافظين، ولا يثير حفيظة التقدميين، كثيرا، وإن كان يختلف على أرضيات أخرى تتعلق بالخطاب السياسي.
وضدا على هذا لا يعرف كثير من التواصليين رأي ولا مباله في الإشكال المسكوت عنه في الحزب، والذي يمرره كل على ما يفهم، أو يريد أن يفهم، وتطمره الملفات اليومية، ومشاغبات السياسة العملية، وهو ملف "المرجعية الإسلامية"؛ والغالب أنه لن يضطر الى بيان موقف شخصي، ما دام يستخدم في خرجاته الإعلامية آيات وأحاديث، ويلوح ببعض الدفاع عن الثوابت؛ فما يشغل أذهان التواصليين هو جمع الأصوات في الحملة، وما يشغل بال المواطن هو الأسعار والأمن، وزيادة الرواتب، وبعض قضايا السياسة العامة.
دفع تواصل بولد مباله إلى البرلمان، وقد يدفع به إلى مواقع أخرى إذا تحددت بوصلة استراتيجية تأخذ بأيدي التواصليين إلى أحلام وطنية أكبر من مجرد تشكيل فريق برلماني، لكنه قد يجد نفسه مجددا في الدائرة الخلفية بعد انقضاء مأموريته البرلمانية وهو.