ولد أحمد باهي ابنُ ريحانةِ الصحوة وداعية الحرية والبشارة /ابراهيم الدويري "كاتب ومفكر إسلامي "

حين بدأت أنوار الصحوة الإسلامية تنتشر في القرى والمدن الموريتانية كان الناس يدخلونها آحادا، وكان المبشرون بالفكرة الإصلاحية ومناهجها قلة يكاد يجرفهم الواقع المحروس بعوامل الجمود على منصوص متأخري الفقهاء، والتعصب للعادات والتقاليد التي ألفها الآباء والأجداد على مر القرون في صحرائهم الكبرى، وبعض الزوابع الفكرية القادمة من وراء البحار على أشرعة العولمة والعلمنة.

وكانت ثمة قرية موريتانية واحدة التحق شيبها وشبابها ونساؤها وأطفالها بمواكب الإصلاح التحاقا جماعيا راشدا جمع بين الأصالة الشرعية المكينة والوعي الإصلاحي المعاصر والالتزام الديني العميق، وهي قرية بوخزامه الماجدة التي ارتبطت واقعا، وفي الأذهان بقيم النبل والكرم والتضحية والدعوة الوسطية السمحة.

فبوخزامة هي ريحانة الصحوة وقرية الوعي الإسلامي، وإنْ كان لكل قرية فلذة كبد، فإن فلذة كبد بوخزامة ابنها البر والشيخ الموفق والعالم الذكي الشيخ أحمد جدُّو ولد أحمد باهي داعية البشارة والحرية الذي يقدمه حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" مرشحا للنيابيات في دائرة نواكشوط الجنوبية في انتخابات ٢٠٢٣.

يشتهر الشيخ أحمد جدُّو ولد أحمد باهي في أوساط إخوانه الإسلاميين بعشر خصال هي سر نجاحه الدعوي الكبير ومفتاح شخصيته المحببة، وتلك الخصال هي: 1- مركزية القرآن في خطابه الدعوي، 2- تغليب خطاب البشارة على النذارة، 3- الذكاء الدعوي المفرط، و4- القبول الكبير لدى الخاصة والعامة، و5- العلم والقراءة الواسعة في شتى المعارف، 6- الخطابة المؤثرة والفصاحة الجزلة، 7- الاستعداد الدائم للأنشطة الدعوية، 8- التجربة الدعوية الطويلة في مدن الداخل، 9- الشجاعة الأدبية في إعلان آرائه ورؤاه، 1-- تقديسه لقيمة الحرية ومنافحته عن قضايا المظلومين.

بتلك الخصال العشرِ الكاملة خط ولد أحمد باهي طريقا دعويا لاحبا ينطلق فيه من الذكر الحكيم مفسرا ومستحضرا ومستدعيا مستنزلا لآياته في علاج الأنفس وتصحيح الواقع، فلكم بثت دروسه القرآنية في الليالي التربوية والمخيمات الصيفية وفي ساحات الثانويات أنوارا من الحكمة الربانية ترفع مؤشرات الإيمان وتنير دروب الشباب الذين ينتظرونها بفارغ الصبر.

يرى الشيخ أحمد جدُّو أن المهمة الأساسية للداعية هي تحبيب الخالق جل في علاه إلى خلقه، ولذا فهو يُبين في خطابه الدعوي أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالبشارة سابق للنذارة، وأن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ناطقة بالرحمة واللطف والفضل والإحسان، وأن النذارة وما يترتب عليها من عقاب وعذاب ليست هي الأصل، وإنما النذارة مترتبة على كفران لاحق وعلاج لانحراف طارئ، ولهذا الخطاب تأثير قوي في نفوس المدعوين، وقد رأيت بعض ذلك في بعض القرى التي زارها الشيخ أحمد جدُّو يوم جمعة وألقى كلمة مؤثرة عن البشارة ويسر الدين وفضل الله وإنعامه على خَلْقِه وما ينتظر المؤمنين في جنات النعيم، وكانت تلك الكلمة بداية تحول كبير في ذلك المسجد وأهل القرية.

عُرف عن ولد أحمد باهي الاهتمام الكبير بسبل توصيل خطابه الدعوي بطريقة مؤثرة تراعي حال المخاطب وما حوله وطريقة الخطاب ومضمونه، وهو ما يصفه زملاؤه بالذكاء الدعوي، وللشيخ فيه أخبار وأحوال وآثار، وهذا الذكاء الدعوي ترتب عليه قبول كبير لخطابه في الأوساط الدعوية والشعبية فعاد بسبب محاضراته وخطبه إلى المساجد مئات الشباب والفتيات، وتميز بسبب دروسه في المدارس مئات آخرون رأوا في إخلاصه لعلمه الوظيفي وحمله همَّ الدعوة ما شحذ هممهم وأنار طريقهم، وكثير من شباب الإسلاميين وقاداتهم الطلابية يعتبرون أحمد جدُّو أحد النماذج الملهمة لا سيما أولئك الذين حالفهم الحظ فدرسهم يوما في ثانويات وإعداديات الحوض الشرقي، أو حضروا مجالس تفسيره ودروسه في الليالي التربوية بنواكشوط.

في بيت والده وجدِّه العالم الشيخ محمد ولد إبراهيم المفتي العرفي للقرية حفظ أحمد جدو القرآن الكريم، وعند الشيخ سيد محمد ولد محمد الملقب إسلمو درس رسالة ابن أبي زيد، وألفية ابن مالك، والمعلقات ولامية الأفعال، وعددا وافرا من الأنظام الأخرى وآداب الفتوة، فكان شيخه إسلمو هذا يطارده ليقوِّم سلوكه ويعلمه كأنه يعده لحمل أمانة سيقوم بها على أحسن وجه، فخلال ثلاث سنوات كان أحمد جدُّو حين لا يجد جماعة تشرب الشاي أو تلهو في بعض الملهيات يتجه إلى لوحه وقد يأخذ عدة دروس في اليوم الواحد إذ لم تكن تكلفه أي "كتبة" مهما طالت أكثر من عشرين "أغبادا".

ثم اتجه غربا إلى العاصمة نواكشوط ليلتحق بمعهد ابن عباس يوم كان أساتذته علماء أجلاء، وهناك بدأ مشوراه مع الجلسات الدعوية الأولى والإصدارات الصحوية الكلاسيكية التي أقبل عليها بشغف شديد وعقل واسع، وهمة عالية مع مقررات المعهد الشاملة ليتخرج عالما متقنا ويلتحق بالتعليم في مدينة تنبدغه ليبدأ رحلة التوسع العلمي مع الموسوعات العلمية الكبرى حيث ختم فتاوى ابن تيمية مرتين، وفتح الباري لابن حجر مرتين مع موسوعات علمية أخرى، وكان خلال السنوات العشر التي قضاها في تنبدغه لا يستيقظ في وقت من الأوقات لأي أمر من الأمور إلا استأنف المطالعة والدرس حتى يغلبه النوم، وظل بعد ذلك مقبلا على المكتبات ملخصا للكتب التراثية والمعاصرة ومقيدا لفوائدها وضابطا لشواردها.

لم تكن علاقة أحمد جدُّو بالكتب علاقة حالمة أو قوقعية تبعده عن الواقع وإكراهاته بل كانت زادا يعينه على الطريق والتغلب على آفاتها، ونورا يبصر به مكامن الخلل فيعالجه بخطابته المؤثرة وفصاحته المجلجلة وصوته الجهوري واستعداده الدائم للدعوة والتعليم ومختلف الأنشطة؛ فمن العهود التي قطع أحمد جدُّو على نفسه أنه لا يرد أيَّ دعوة لتقديم درس أو محاضرة تحت أي ظرف من الظروف إلا إذا كان لديه التزام مسبق بنشاط مقرر من قبل، أما هواجس التعب والإرهاق والملل واليأس فهذه أمور ما عرفها ابن أبي خزامة.

وبهذا العقد والعهد مع الله، تقوم الدعوات وتنتشر المبادئ ويعم الخير، وعلى هذا مكث أحمد جدُّو عقودا من الزمن في مدن الداخل صابرا على صعوبة العيش فيها، معرضا عن دواعي الهجرة والتغرب مع أن الزيارات التي قام بها لبعض الدول الغربية والعربية والإفريقية أفادته في التبصر بالواقع على خطى كبار المصلحين الذين كانت الرحلة ركنا ركينا من وعيهم الإصلاحي.

ينحاز العالم والداعية الذي يقدمه تواصل للدفاع عن المستضعفين وتغيير مناكر الحكومات في برلمان الجمهورية الإسلامية الموريتانية إلى قيم العدل والحرية ويرى أنهما من أمهات الفضائل الإسلامية ومن قواعد الاستقرار ودواعي الازدهار، ومن مشكاة هذا الانحياز الشريف خرجت فتوى الشيخ أحمد جدُّو عام 2015 المعروفة بفتوى بطلان أصول الرق في موريتانيا “أصولا ومعاملة وواقعا”؛ لأنه لا يستند -حسب ما توصل إليه- إلى أي أصول شرعية، وكانت أصرح فتوى في هذه القضية الشائكة، كما زار في 2016 سجناء إيرا وناقش معهم قضايا تتعلق بالمرجعية الإسلامية كإطار جامع للتحرر وإلغاء الرق.

لا يبالي الشيخ أحمد جدُّو ولد أحمد باهي بالأمزجة الشعبية فهو يرى أن الجميع يشملهم الإسلام، وللإسلام حق لا يسقطه الخلاف في جزئيات معينة، فهو منفتح على جميع التيارات ويرى ضرورة التواصل معها ونصحها، كما يرى أن مرجعية العالِم هي نصوص الوحي وقيم الرحمة بالناس المخطئين وغيرهم من غير تمييز ولا تفريق، وأن الخضوع لسلطة الجماهير كالخضوع لسطوة الحاكم الجائر.

وهذا ديدنه في إعلان كل ما يعتقد من غير مواربة ولا تطرف، ذلك التطرف الذي احترز منه في فتوى الرق بـ"أنه يجب علينا ونحن نغير هذا المنكر أن لا نقوم بمنكر آخر وهو زرع الفتنة وتحميل أمة وزر أمة أخري"، وللشيخ أحمد جدُّو ولد أحمد باهي فتاوى أخرى غير تقليدية منها وجوب السعي للغنى وحرمة الكفر، نافيا بذلك عن العقل الإسلامي ما علق به لعدة قرون من دعاوى أفضلية الفقر والاستعفاف، فهل يكون البرلمان الموريتاني القادم محظوظا باحتضان قامة شامخة في العلم والفكر والدعوة والتضحية والتنوير وحمل قضايا المظلومين كالشيخ أحمد جدُّو ولد أحمد باهي نرجو له ذلك، وعلى ناخبي نواكشوط الجنوبية اهتبال الفرصة فإن الفرص بروق تأتلق.