هناك من بيننا من يمن علينا استقلالنا الوطني، وكأننا لا نستحقه أو كأنه قدم لنا على طبق من ذهب، أو كأنهم لم يروا صور الظلم والاستبداد التي تعيشها الشعوب المستعمرة، أم أنه مجرد استخفاف بالمنجزات التي تحققت عبر 55 سنة الماضية التي تمثل عمر استقلالنا الوطني.
فلهؤلاء المنانون أذكرهم بأن المن صنفه الشرع بأنه إحدى الكبائر، ففي حديث أبي ذر الذي رواه أحمد ومسلم رضي الله عنهم جميعا: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى) هذا بشرط أن يكونوا هم مصدر العطاء، وهذا لا أساس له؛ حتى أنهم لم يكونوا في الوجود وقت إعلان الاستقلال الذي استفدنا منه على أساس مجموعة من المقومات من أهمها رفض الاستعمار بجميع أساليبه، حيث رأى فيه المواطن الموريتاني تهديدا لقيمه الدينية والاجتماعية، بعد أن طبق سياسة فرق تسد بين القبائل الموريتانية من جهة، وبين الشرائح المكونة للمجتمع من جهة ثانية، وحارب اللغة العربية وآدابها ممهدا لأن تحتل مكانها اللغة الفرنسية وما تجر وراءها من ثقافة منافية لقيمنا الاسلامية.
وكان لمحمد لحبيب والشيخ سيديا الكبير السبق في زرع بذور مقاومة الاستعمار في الترارزه، من خلال دعوة الامارات ومشايخ القبائل لمواجهة التوسع الفرنسي، لتتطور المقاومة وتتحول من الدعاية للجهاد إلى حمل السلاح مع دخوله في لبراكنه، ليتصدى له الأمير سيد اعل ولد أحمدو الملقب ولد عساس، الذي خلفه في حمل راية الجهاد بعد استشهاده ابنه أحمدو ولد سيد اعل ، وما إن دخل إلى تكانت حتى تصدى له الأمير بكار ولد اسويد أحمد وهكذا... ما كان يدخل الاستعمار إلى إحدى الامارات الموريتانية حتى يتدافع لمقاومته أبناء الامارة معززين بالمجاهدين من الامارات الأخرى، وليست معارك تجكجهوانيملانوآدرار إلا شواهد على تلاحم أبناء هذا الوطن واصرارهم على انتزاع جذور الاستعمار من بلدهم حيث توافدوا من جميع جهات موريتانيا.
وقائمة المجاهدين تطول وفي مقدمتها الشيخ ماء العينين ولد الشيخ محمد فاضل والأمير سيد أحمد ولد عيده والأمير أحمد ولد الديد واعلي ولد مياره وسيدي ولد مولاي الزين... إلخ؛ والمقام لا يتسع لذكر أسماء كل من استشهد في سبيل الدفاع عن هذا الوطن فالمعروفون منهم يعدون بالمئات، أما المجهولون فقد يكونون أضعاف أضعاف ذلك، ولو أننا أحصيناهم جميعا لكانوا يمثلون نسبة كبيرة من عدد السكان آنذاك.
ورغم هذه المعارك التي شهد الفرنسيون في كتاباتهم التاريخية باستفحالها واستبسال المجاهدين فيها، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة أراء مشككة في المقاومة الوطنية، ومنها الادعاء بأن معركة أم التونسي وقعت بين الموريتانيين الموالين للاستعمار وآخرين مناوئين له، ويحمل هذا الافتراء الاساءة لمن استشهد في تلك المعركة البطولية ولأبنائهم المتواجدين بيننا اليوم، فمن المعروف أن هذه المعركة وقعت يوم 18 .08. 1932 بين فرقة صغيرة من المجاهدين ومفرزة من الجيش الفرنسي، قادمة من الترارزه، يتكون طاقمها القيادي من ستة ضباط فرنسيين قتلوا جميعهم، وكان من ببينهم ابن الرئيس الفرنسي ماك ما هون وما يزال حتى الساعة بعضا من المجاهدين الذين شاركوا فيها على قيد الحياة.
وليس تقليلهم من أهمية المقاومة الوطنية إلا مثل طعنهم في العلم والنشيد الوطنيين، والاساءة إلى الجيش الوطني، والتشويش على معنوياته، وهي جميعها جرائم منصوصة في قانون العقوبات الموريتاني، وبغض النظر عن ذلك فكان على هؤلاء الشباب ممن يدعون (الفكر التحرري) احترام مقدسات هذا الشعب، حتى وإن كانوا لا يؤمنون بها، فهذا العلم نفسه هو الذي كانوا يقفون له أيام الدراسة، والنشيد الوطني هو نفسه الذي كانوا يرددونه في فصولهم الدراسية عند نهاية اليوم الدراسي، والجيش الوطني هو نفسه الذي كانت تنطلق حناجر أمهاتهم بالزغردة له في وقت كان اسما بلا مسمى، أما اليوم فهو جيش عصري بكل المقاييس تبيت عينه ساهرة من انبيكة لحواش إلى انجاكو، ومن بئر أم اقرين إلى غابو.. ولولاه لما كنا نياما ملء أعيننا وبلدنا على مشارف تنظيمات إرهابية عجزت القوى العظمى في إيقافها عند حدها.
أما استعراض الانجازات التي تحققت في ظل الاستقلال فيتطلب السؤال عن ما تركه المستعمر، فما الذي ترك لنا؟ غير مراكز صحية قليلة ومساكن تعد على رؤوس الأصابع في المراكز التي أقامها والتي كان يخصصها في الأصل للضباط وضباط الصف الفرنسيين، حتى أن المتعاونين معه من الأفارقة لم يستفيدوا من الخدمات التي كانت خاصة بالعناصر الفرنسية. وحبذا لو عرف هؤلاء المشككون أن أول احتفال بالاستقلال الوطني في عاصمة البلد قيم به في كوخ جوانبه من لبن الاسمنت، مغطى بالقماش، وبعد ذلك بدأت الانجازات بوتيرة بطيئة، لتتسارع في الفترة الأخيرة، ولو أنهم وضعوا التكبر جانبا وأعطوا لكل ذي حق حقه لاعترفوا بأن ما قيم به من انجازات على مختلف الأصعدة خلال السنوات السبع الماضية لا يمكن تحقيقه في هذه الفترة الوجيزة، وأولها الحرية المطلقة في التعبير التي استغلوها في الاساءة إلى رموز السيادة الوطنية.