ولد شيخنا يكتب : سياقات التناقض الروسي - التركي

سيد أعمر ولد شيخنا / كاتب موريتاني ومتخصص في العلوم السياسية

أعادت حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل المقاتلات التركية إلى واجهة النقاش والتأمل مستقبل العلاقات التركية- الروسية، على ضوء المتغيرات المتسارعة في البيئة الإقليمية والدولية، وما يمكن أن ينجم عنها من تحولات استراتيجية مفتوحة على كل الاحتمالات.

بين روسيا وتركيا علاقات اقتصادية وتجارية كبيرة وبينهما من التنافس الاستراتيجي والتناقض في المصالح والرؤى الشيء الكثير، مع ذاكرة متوهجة بالصراعات والحروب بإمكانها أن تنسف أي جهود ثنائية في التعاون وتبادل المنافع.
ومن عجائب الأقدار أن تشكل الأزمة السورية بأبعادها المختلفة الميدان الرئيس لتجلية التناقض التركي- الروسي، في العديد من الملفات المتشابكة ذات السياقات الجيواستراتيجية المختلفة، وتحاول هذه التدوينة إبراز أهم سياقات التناقض التركي- الروسي وعلاقتها بتفاعلات الأزمة السورية الملتهبة.

صراع النفوذ: التدخل الروسي في سوريا رغم سياقه الجيو استراتيجي العام المرتبط بتفاعلات الأزمة السورية موجه بالدرجة الأولى لتركيا وعمقها الاستراتيجي المتمثل في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز سنية المذهب تركية العرق في الغالب الأعم، وهو الفضاء الجغرافي والبشري الذي يخضع لنفوذ روسي كبير منذ انحسار الخلافة العثمانية وما تلاه من تمدد روسي كاسح في العهدين القيصري والسوفياتي. وتعود حالة التوثب الروسي ذي النزعة الهستيرية في جزء كبير منه إلى القلق العميق من تنامي صعود تركيا وقوتها الناعمة ونموذجها التنموي والهوياتي الجذاب لشعوب آسيا الوسطى والقوقاز، وهي المنطقة التي تحكمها أنظمة شمولية متكلسة من مخلفات العهد الشيوعي، باتت مهددة جديا بالانهياربفعل فسادها واستبدادها . وتكمن خشية روسيا في أن تشكل تفاعلات الربيع الديمقراطي العربي وموقف تركيا منه البيئة الملائمة لتحفيز انطلاق شرارة ربيع ديمقراطي في آسيا الوسطى، يطيح بهذه الأنظمة السائرة في الفلك الروسي، من هنا يمكن اعتبار تحركات روسيا في المشرق العربي بمثابة إشارات إنذار مبطنة لتركيا ولشعوب آسيا الوسطى معا، لتركيا: (نحن هنا ونراقب "أسلمة" تركيا وطموحاتها الجيو استراتيجية)، ولشعوب آسيا الوسطى: (لقد ذهبنا بعيدا إلى سوريا لدعم نظامها القمعي، فكيف بمنطقة نفوذنا التلقليدي).

 

رسم الخرائط: في العقد الثاني من القرن العشرين تقاسم الحلف "الروسي ـ البريطاني- الفرنسي" المنتصر في الحرب العالمية الأولى تركة "الرجل المريض" وهو التعبير الذي كان يطلق على الخلافة العثمانية في أواخر أيامها، فعلى مستوى المشرق العربي قامت فرنسا وبريطانيا بشكل سري في 16 مايو 1916م بعقد اتفاقية "سايكس- بيكو" التي نصت على تقسيم منطقة المشرق العربي إلى مناطق نفوذ للقوتين الاستعماريتين فيما باركت هذه القوى الاستعمارية استمرار روسيا في قضم وابتلاع الأقاليم الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز. وفي ظل التحولات الاستراتيجية العميقة التي قدح شرارتها الربيع العربي، بات من الواضح أن هذه المنطقة التي شهدت انهيارات مريعة للاستحكامات الجيوسياسية التي أقيمت خلال القرن المنصرم تتجه اليوم إلى إعادة رسم جديدة للخرائط ومناطق النفوذ. إن غيوم التقسيم والتجزئة التي تلبد سماء المنطقة من جديد تشكل أحد منابع التناقض الروسي ـ التركي بدرجة كبيرة في ملفات مثل الأكراد والعلويين والتركمان والثورة السورية .

 

ولا يقتصر التناقض الروسي- التركي على المشرق العربي فقط بل يمتد إلى ملفات مثل اليونان والأزمة القبرصية، وصراع النفوذ في البلقان.

حروب الغاز: أحد أوجه القلق الروسي من المواقف التركية في الساحة السورية والمشرق العربي يتمثل في بعد اقتصادي غائب عن التحليل والنقاش، ففي نظر روسيا يضمن التواجد العسكري في سوريا التأثير على مستقبل مشاريع الغاز في المنطقة التي تشكل تهديدا لمكانة روسيا في سوق الطاقة، ومن بين هذه المشاريع المقلقة: مشروع نقل الغاز القطري إلى تركيا عبر أنابيب تمر بالأراضي السورية، وهو المشروع الذي ستكون له انعكاسات كبيرة على المصالح الاقتصادية الروسية التي تعتمد بقوة على السوق التركية، والأخطر في نظر روسيا يتمثل في وصول الغاز القطري إلى أوروبا عبر تركيا مما من شأنه أن يحرر أوروبا من الابتزاز الروسي المستمر. أما المشروع الثاني الذي دخل حيز التنفيذ فهو التعاون التركي مع إقليم شمال العراق في مجال الغاز، ووفق تصريح رئيس لجنة الطاقة في برلمان إقليم شمال العراق "شركو جودت" فإن الإقليم يمكنه تلبية احتياجات تركيا وأوربا من الغاز الطبيعي وأن الإقليم وتركيا وقعا اتفاقا استراتيجيا بشأن نقل غاز الإقليم إلى أوربا عبر تركيا ،يدخل حيز التنفيذ عام 2017م .وبالإضافة إلى ماسبق لروسيا حساباتها الخاصة فيما يتعلق بغازشرق المتوسط وموقفها الداعم لليونان وقبرص وإسرائيل في مواجهة الحقوق التركية والعربية في حقول الغاز الضخمة في هذه المنطقة .

 

التحالف الروسي ـ الإيراني: تتقاطع روسيا مع إيران في إعادة تفعيل التحالف الاستراتيجي التاريخي بينهما في مواجهة المحور السني (الأتراك - العرب) وهي المحاور التي تعود بدايات تشكلها إلى حقبة الصراع "العثماني- القيصري - الصفوي". وتتطابق الرؤية الإيرانية مع نظيرتها الروسية في فضاء آسيا الوسطى والقوقاز، حيث لا تمتلك إيران أي أوراق قوة حقيقية في هذا الفضاء السني التركي، كما لا يشكل النموذج الإيراني أي عنصر جذب لشعوب هذا الفضاء بخلاف النموذح التركي شديد الإغراء وعميق الجذور، وعلى هذه الخلفية تتطابق الرؤى الإيرانيةـ الروسية في الملفين السوري والعراقي مؤسسة لحالة من التخادم الاستراتيجي بين الطرفين. .

 

ويذكرالدكتور بشير نافع أنه عندما قال للمؤرخ ألبرت حوراني بأنه قرأ كتاب "الصراع على سوريا" ،همس حوراني في أذنه قائلا: هو ليس الصراع على سوريا فقط بل الصراع على المشرق كله. في هذا السياق الجيواستراتيجي العام يجب أن نفهم التناقض في المصالح بين تركيا وروسيا في الأزمة السورية فسوريا بلد مفتاح ، فهي قلب الشام حيث يبدأ وينتهي التكوين على حد تعبير الشاعر نزار قباني .

للاطلاع على مصدر المقال اضغط هنا