إلى العقيد أحمدو بمب ولد باي .. بخصوص الدستور!

سيدي العقيد أحمدو بمب ولد باي بعد ما يليق بجنابكم من التقدير، تابعتُ باهتمام مقابلتكم مع قناة "الوطنية" في برنامج "كلام في السياسة" وهي المقابلة التي كان بيتُ القصيد فيها مسألة تعديل الدستور بما يضمن بقاء عزيز في السلطة لمأمورية ثالثة ثم بصفة دائمة إذ لم يعد هناك حدٌّ ولا حدود، عكس مواد الدستور الصريحة الجامدة، وحصل تناقض كبير أو تلاعب في كلامكم عن ثغرة مفترضة في الدستور، وهو أمر خطير على مصير البلد، وتلاعب ومغامرة لا تبررها أي مطامح أو مصالح فردية مهما كانت، لذلك لا بأس أن أناقشكم بعجالة في مجال ليس تخصصي ولا تخصصكم، وهذا أمر سلبي طبعا من جانبين:

ـ أولا: تغييب أو غياب أصحاب التخصص لصالح الهواة
ـ ثانيا: تحويل محظور دستوري إلى سجال سياسي، فذلك تمييع يخدم التعديل اختزالا لوطن كامل في شخص، بغض النظر عن أدائه، وقتل للدستور نفسه بل والاجماع الوطني والاستفتاء، وتفريغ كل شيء من محتواه ليفتح المجال أمام الفوضى والعربدة.

سيدي العقيد، سوف أحيّد مساركم المهني السابق رغم ما يحويه من تورط في انقلاب فج على رئيس منتخب، ودخولكم وحل السياسة في بدلة عسكرية ضمن طغمة الانقلاب حينها لتشبعوا شيخا مسنا ورئيسا منتخبا وسجينا، سبًا وشتما واتهاما تجاوز شخصه إلى عرضه والمحيطين به، ولن أنقّب كثيرا عن ماضيكم في الذود عن الديموقراطية والاهتمام بالدستور، ولا بأدائكم الإداري أو الحقوقي مثلا أترك كل ذلك للتاريخ ولعمال اسنيم، ولا حتى بمشواركم السياسي الجديد المتوج بأمين عام في حزب لا يعرف الكثيرون من المهتمين بالساحة السياسية والاعلامية اسمَه، وسأحاول أن اختزل هذه الرسالة أو التساؤلات أو الاثارة في مجال "مبادرتكم" الدستورية المتعلقة بتعديل أو مراجعة الدستور بحجة تناقض في مواده، وهو مبادرة تأتي ضمن سباق "الإهلاك" الجديد من أجل تشجيع أو جر أو مسايرة عزيز في البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى، أي إلى انقلاب جديد بلغتكم التي تفهمون.

الاجماع والاستفتاء

قلتم إن المادة الثانية من الدستور والمادة (38) تناقضان المادة (28) والمادة (29)، وهذا خلل دستوري يجب علاجه. هذا أمر جيد أن يهتم من انقلبوا على الدستور وعلى رئيس منتخب بـ"تناقض" دستور صِيغَ من طرف خبراء وفي ظل إجماع وطني نادر، وتم الاستفتاء المباشر عليه بدعم جميع القوى السياسية والمدنية والاجتماعية، بل وحتى المؤسسة العسكرية التي قادت الفترة الانتقالية الأولى 2005ـ 2007 في ظل تلك الفرصة النادرة التي وأدتموها في المهد،، لقد جمع الدستور ـ أو التعديل الدستوري ـ حينها بين أقوى مراتب التشريع أي الاجماع والاستفتاء، فقد اتفق الجميع على تزكيته وشارك الجميع في الدعاية له، فتم الاستفتاء عليه إثر ذلك الاجماع، وبنسبة كبيرة حيث بلغت المشاركة 76.51% وصوتت بـ(نعم) على تعديل الدستور نسبة 96.97% وتمّ ذلك بإشراف دولي وإقليمي ومحلي. ولا شك أنكم تدركون أن أي حصانة لم يكتسبها دستور تمت صياغته والاستفتاء عليه في ظل اجماع وطني شامل، لن يكتسبها تعديل يأتي لشخصنة المؤسسات وقتْلِها خدمة للحاكم، فهل تريدون أن ندخل في دوامة من الفوضى وانتهاك الدستور وقتل المؤسسات أكثر مما حصل من قبل؟! ألا تملك أغلبيتكم التي تنتمون إليها أي شخص يمكن اسناد الرئاسة إليه لإكمال هذا المشروع السياسي المزعوم؟ ماذا لو غاب عزيز شخصيا، هل ستتفرقون أيدي سبأ وتذوب أحزابكم مثل فص الملح في الماء كما حصل مع الحزب الجمهوري؟ ألا يكفينا مهازل أيها الناس؟

تهافت التناقض

سيدي العقيد، صاحب التجربة الانقلابية "الجيدة" ، تقول المادة (28) من الدستور: "يمكن إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمرة واحدة". وتقول المادة (29) في فقرة القسم التي تعنون: " وأقسم بالله العلي العظيم أن لا أتخذ أو أدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أية مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و28 من هذا الدستور".
أما المادة الثانية فتقول: "الشعب هو مصدر كل سلطة. السيادة الوطنية ملك للشعب الذي يمارسها عن طريق ممثليه المنتخبين وبواسطة الاستفتاء، ولا يحق لبعض الشعب ولا لفرد من أفراده، أن يستأثر بممارستها. لا يتقرر أي تنازل عن السيادة جزئيا كان أو كليا إلا بقبول الشعب له". بينما تقول المادة 38: "لرئيس الجمهورية أن يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء في كل قضية ذات أهمية وطنية". فأين هو التناقض؟
هنالك مبدأ تشريعي يتعلق بتقييد العام بالخاص، وهناك ترتيب المواد، وهناك النسخ والتفصيل الخ، وهي أمور يجب على من يتطرق للتشريع عموما أن يأخذ منها زادا ولو نزْرا. إن كنتم تقصدون أنه لا يمكن تحديد مأمورية رئيس الجمهورية إن قرر الشعب عكس ذلك، فأنتم تقفزون على أن الشعب هو الذي قرر هذا التحديد أصلا، وهو نفس الأمر المتعلق بالقسم، كما أن الاستفتاء المنصوص عليه في المادتين الثانية والـ38 هو نفس الاستفتاء الذي حصل على الدستور 2006 معززا بالإجماع الذي حصل في ظله، وهو إجماع لن يتأتى لكم اليوم مهما كانت وجاهة ما تطمحون إليه، أحرى في إطار البحث عن اختزال وطن كامل في شخص زائل، فهل تستبدلون الذي هو أعلى بالذي هو أدنى؟!
إن هذا المنطق "التناقضي" الذي فسرتم به الدستور يفتح أبوابا تتنافى مع الغرض التشريعي أصلا المتعلق بتنظيم الحياة وضبط مسار الأمور، إذ يمكننا القول ببساطة هذا المنطق وسطحيته إن المادة (10) من الدستور والمتعلقة بالحريات متناقضة لأنها تضمن الحرية وفي نفس الوقت تقول إنه لا تقيد حرية إلا بنص قانوني، كما يمكنني القول أن جميع الثوابت الوطنية (الدين، الحوزة الترابية، الوحدة الوطنية الخ) يمكن المس منها باستفتاء، لأنها ثوابت تستمد حرمتها النصية من الدستور نفسه، فهل تقبلون أن تكون هذه الثوابت محل نقاش مثلا؟

لقد قفزتم سيدي العقيد على المادة (99) من الدستور، أو بالأحرى توقفتم دونها، وهي مادة صريحة جدا، إذ تقول: "لا يجوز الشروع في أي إجراء يرمى إلى مراجعة الدستور، إذا كان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزة أراضيها أو من الصبغة الجمهورية للمؤسسات أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وذلك طبقا لما تنص عليه المادتان 26 و28 المذكورتان سالفا". فهل تقبلون أن هذه المادة جاءت في الترتيب بعد المواد التي أشرتم إليها، وما يعنيه ذلك من تقييدها لهم، سواء في إطار تقييد العام بالخاص، أو في إطار الترتيب التسلسلي، لأنها الأخيرة ولم يأت بعدها في الدستور ما ينسخها أو يقيدها أو يغيرها؟ أم أن كل هذه الأمور يسهل القفز عليها من أجل البقاء على شخص واحد في مقعد واحد، ولو أدى كل ذلك إلى احراق بلد بكامله، أو قتل مؤسسات دستورية قائمة، أو انتهاك صارخ لنصوص واضحة جلية تتمتع بأقوى مراتب التشريع حيث جمعت بين الإجماع والاستفتاء وفي ظروف مَرْضِية؟ أم هناك ما يدفعكم ويدفع آخرين لإغراق الرجل؟ أو لا تعلمون أن أي محاولة من هذا القبيل لا يمكن التأكد من نتائجها سواء تعلق الأمر باستمرار الحاكم الحالي أو طموح حاكم مستقبلي مفترض؟

سيدي العقيد، إن الذين يبحثون عن الوطن أو يعملون على بناء الوطن، ليسوا كالذين يبحثون عن الأشخاص، أو يختزلون الوطن في الأشخاص، أو يتسلقون الأشخاصَ لقضاء حوائج، أو تحقيق مطامح أو مطامع، في استعداد دائم للتكيّف مع كل جديد، وأربأ بكم وأمثالكم أن تكونوا من الصنف الأخير. إن ما تجُرّون إليه البلد والرئيس لا يخدم البلد ولا الرئيس، ولا يخدمكم أيضا، فما كل مدوّر كعْك ولا كل يوم أحد.