هذا المقال في الواقع هو رسالة إلى الإخوة العرب من شخص زالت عنه عقدة العروبة : لم أعد بحاجة إلى أن أثبت عروبتي لأحد وعلى الكثير من النخبة الموريتانية التحرر من هذه العقدة لتأسيس علاقة إيجابية مع الإخوة العرب قائمة على الاحترام المتبادل والمصلحة لجميع الأطراف : إخوة لا يتبادلون المنافع ليسوا في الواقع إخوة ولن تنفعهم قوة المشاعر مهما كانت صادقة ! وبالتالي نحن بحاجة بفعل منطق العصر أن نضيف إلى ذلك البعد الوطاني الدفين الذي يضمره كل واحد منا أبعادا استراتيجية في علاقتنا مع إخوتنا العرب واعتقد أن ذلك أيضا هو ما ينقص العلاقات العربية العربية لكي تكون فعالة ودائمة . هذه هي الروح "الأفلاطونية" التي تكمن وراء كتابة هذا المقال : افلاطون الذي طرد الشعراء من جمهوريته.
وفي الحقيقة فإن العرب بحاجة إلى موريتانيا وموريتانيا بحاجة إلى العرب وقد نغير هذه الصيغة بصيغة أخرى فنقول العرب بحاجة إلى موريتانيا دائما وموريتانيا بحاجة إلى العرب الآن.
موريتانيا في هذا الجانب ليست أقل أهمية من فلسطين والخطر قد يأتي من المركز كما قد يأتي من الأطراف وتثبت التجربة التاريخية أن مشكلة الحضارة العربية عبر تاريخها كانت دائما تأتي من الأطراف : تآكلت أطراف الامبراطورية العربية في الأندلس فكان ذلك سببا في انبعاث أوروبا وتأخر العرب وسرعان ما انعكس ذلك في الرحلات الاستكشافية أولا ثم الامبريالية وفي الاستعمار لاحقا، وتآكلت أطراف الامبراطورية العثمانية فتحولت أوروبا ودول البلقان إلى عداء تاريخي للمسلمين لا تزال آثاره بادية للعيان (المشكلة القبرصية، الإرث الإنساني العثماني في أرمينيا ، صعوبات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي رغم إمكانياتها الهائلة ، الاسلاموفوبيا، القيود على الهجرة ، صعوبات اندماج المهاجرين العرب في أوروبا...إلخ)، تآكل حدود فلسطين التاريخية جاء من الأطراف لا أحد اليوم يعير بالا للمستوطنات في قلب الضفة لأنها خاضعة للتسوية في أي وقت، تآكل الحدود السورية في الجولان ولواء اسكندرونة، تآكل الحدود اللبنانية في مزارع شبع، تآكل الحدود الإماراتية في الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، تآكل الحدود المصرية في سيناء، تآكل الحدود السودانية في جنوب السودان وهلم جرا.
الخطر يأتي دائما من الأطراف ! ولأن الأطراف دائما أكثر حيوية وأكثر تعلقا بالمثل المشتركة وعصبيتها أقوى من عصبية المركز فإن صلتها بالأمن القومي العام أقوى وأهم من صلة المركز .
ولكي لا يتكرر الأمر مع الأطراف الغربية للوطن العربي فإنني أقدم للمشاركين العرب في قمة الأمل خارطة طريق لتفعيل التكامل العربي المشترك فيما يتعلق بمستقبل العلاقات الموريتانية العربية وهو ما يقتضي منا الإشارة من جهة إلى القدرات والإمكانيات المهمة التي تتمتع بها موريتانيا في مجالات متعددة تؤهلها للعب دور أكثر أهمية في التكامل العربي وكذلك تشخيص التحديات التي يواجهها البلد في الوقت الحالي وانعكاس ذلك على الأمن القومي العربي من جهة أخرى . أما فيما يتعلق بالتحديات فهي على النحو التالي :
* البلد يمر حاليا بتحولات اجتماعية وسياسية عميقة مفتوحة على كل الاحتمالات (انقسامات عمودية وأفقية باتت تهدد مستقبل التعايش بين مكونات هذا الشعب)
* تأثير الأجندات الإقليمية والدولية وما تنذر به من مشروع تجزيئي ودعم صريح للنزعات الانفصالية
* بلد يخوض بمفرده وبوسائله الخاصة حربا ضد الإرهاب الدولي نيابة عن العرب ومساهمة منه في الأمن الإقليمي العربي لأن استقرار موريتانيا ودول الأطراف بصفة عامة وأمنها هي شرط من شروط الأمن القومي العربي.
* بلد يمر بحالة خطيرة من عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي ناجمة عن عوامل متعددة. وعلى الرغم من المحاولات المبذولة من جانب الحكومة من أجل انطلاقة اقتصادية حقيقية إلا أن تلك المحاولات اصطدمت بواقع الأزمة الاقتصادية العالمية وتراجع أسعار خامات الحديد وتعثر اتفاقيات الصيد في فترات متعددة وهما أهم موردين اقتصاديين للبلد.
كل هذه المعطيات تدعو إلى ضرورة اتخاذ قرار حازم وتدخل سريع وعاجل من أجل إنقاذ البلد الذي بات مهددا أكثر من أي وقت مضى في استقراره ووحدته بفعل العوامل الداخلية والخارجية التي ذكرنا وقد آن الأوان لأن يتحمل الزعماء العرب مسؤولياتهم تجاه شعوبهم وأن يتدخلوا على الأقل مرة واحدة في الوقت المناسب. وفي الحقيقة فإن الكثير من الخبراء يعتقدون أن المشكلة الاقتصادية والظواهر الاجتماعية السلبية المرتبطة بها كالبطالة في أوساط الشباب والتطرف والعنف الاجتماعي والديني إذا كانت جزء من المشكلة فإنها أيضا جزء من الحل لذلك يتعين على الزعماء العرب المجتمعين في انواكشوط أن يحملوا الأمل إلى الشعب الموريتاني من خلال تبنيهم لاستراتيجية شاملة ، فعالة ومنظمة لدعم الاقتصاد الموريتاني ذلك هو ما ينتظره الشعب الموريتاني من هذه القمة . إذا لم يحدث ذلك وبسرعة فلربما يأتي اليوم الذي نبكي فيه موريتانيا كما بكينا الصومال والسودان والعراق وكما نبكي الآن اليمن وسوريا وليبيا...إلخ.
إذا لم يحدث ذلك أيضا فإننا لن نخسر بلدا اسمه موريتانيا بسماحه أهله وتعلقهم بالكيان العربي وإنما سنخسر معه كذلك الأمور التالية :
* العمق العربي والثقافة العربية ولغة الضاد في إحدى أهم دول الأطراف الموجودة على التخوم الإفريقية ومنطقة الساحل
* سيخسر العرب لاعبا مهما في قضيتهم المحورية وهي القضية الفلسطينية لعب بدبلوماسيته الرسمية والشعبية دورا مباشرا في سبعينيات القرن الماضي ولا يزال يلعبه الآن في محاصرة التمدد الإسرائيلي . لقد قطعت موريتانيا علاقاتها مع إسرائيل فما الذي حصلت عليه في المقابل ؟ يتردد الآن في الكثير من الدوائر غير الرسمية أن ما أدى إليه قطع العلاقات مع إسرائيل من أضرار اقتصادية وسياسية للبلد على صعيد العلاقات الدولية أكثر بكثير مما جلبه له من مصالح ومع ذلك لا تبدو لدى الطرف الحكومي أي نية في مراجعة القرار على الأقل في الوقت الحالي.
* سيخسر العرب المساهمة المباشرة لموريتانيا في الحفاظ على أمنهم القومي ضد الإرهاب والتطرف العنيف والمخدرات والجريمة العابرة للحدود بجيش إن لم يكن هو الأقوى في شبه المنطقة إلا أنه هو الأكثر أهلية بحكم خبرته وتكوين أفراده على التعامل مع المشكلات الأمنية فيها
* وأخيرا سيؤدي تحول البلد إلى دولة فاشلة لا سامح الله إلى حصول تطورات دراماتيكية سريعة في النزاع حول الصحراء الغربية
أرجو ألا تكون لي هذه المرة فراسة الفيلسوف ونظرته الاستشرافية للمستقبل.
السؤال الآن هو ما الذي يحتاجه العرب من موريتانيا ؟ وما الذي في مقدور موريتانيا أن تقدمه للعرب وما هو مستقبل العلاقات بين الطرفين ؟
من الناحية الجيوستراتيجية فإن موريتانيا هي البوابة الأهم للعرب على إفريقيا يساعدها في ذلك عدة عوامل منها :
* التداخل العرقي والثقافي والروحي مع القارة السمراء
* فهم الموريتانيين لعقلية الشعوب الإفريقية يجعل التعويل عليهم من طرف الجامعة العربية في مشاريع الشراكة بينها وبين إفريقيا في المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية والسياسية من خلال الدبلوماسية الرسمية والشعبية والروحية رهانا رابحا وعليها أن تحذو في ذلك حذو الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة التي أخذت شيئا فشيئا توظف تلك العلاقات من خلال تعيينها لمبعوثين موريتانيين في هيئاتها المختلفة .
موريتانيا وإن لم تكن الدولة العربية الوحيدة المنفتحة على إفريقيا إلا أن عمق العلاقات التاريخية (التجارية والثقافية والروحية) معها ساهم في استقرار الموريتانيين في البلدان الإفريقية استقرارا دائما لأغراض متعددة
هذا ويجب ألا ننسى أن وجود الشعوب الإفريقية على هذه الأرض ضارب في القدم حاله حال وجود المكونات الأخرى وأن جزءا مهما من الشعب الموريتاني يتقاسم مع الشعوب الإفريقية لغتها وثقافتها بفعل التداخل العرقي والثقافي والتفاعل المستمر والحيوي للبلد مع بلدان الجوار الإفريقي .
ومن الناحية العسكرية والأمنية تفرض المقاربة الأمنية الموريتانية والنجاحات التي حققتها في الحرب على الإرهاب والهجرة السرية والجريمة المنظمة نفسها وتقتضي التعامل معها بإيجابية من جانب الدول المشاركة في القمة من أجل تثمينها والاستفادة منها ومساعدتها في استكمال النقائص التي لا تزال تنقصها لأن كل استثمار في هذا الجانب هو استثمار في الأمن الإقليمي العربي.
خبرة الجيش الموريتاني في الصحراء وقدرته على التحمل بفعل ثقافة أفراده باعتبارهم من سكان الصحراء جعله مؤهلا أكثر من غيره من الجيوش العربية الأخرى على مواجهة الجماعات المسلحة التي يتقاسم عناصرها معه نفس الثقافة ونفس الخبرة لكن بفارق فقط في الوسائل بسبب الدور الذي يلعبه اقتصاد الجريمة في تمويل الحرب التي تخوضها تلك الجماعات على دول ضعيفة لا حول لها ولا قوة ولا ناقة لها ولا جمل في الصراع الدائر بينها وبين القوى الدولية لكنها وجدت نفسها فجأة بين فكي كماشة بين أجندات دولية ومشاريع استعمارية ترفض الانخراط فيها ومشاريع أخرى عدمية تنشر الموت في كل مكان.
بناء على ذلك فإن الجيش الموريتاني يتمتع بخبرة حربية كبيرة في الصحاري الإفريقية وفي أي تضاريس أخرى مماثلة لذلك فهو مؤهل بالفعل إذا ما توفرت له الوسائل المناسبة لتدريب الجيوش العربية وتبادل الخبرة معها خصوصا في ظل التواصل الجغرافي – بسبب وجود دول فاشلة في المنطقة - وعلى الصعيد المعلوماتي بين الجماعات المسلحة في الساحل وشمال إفريقيا بنظيراتها في الشرق الأوسط.
من الناحية الاقتصادية موريتانيا ليست بلد المليون شاعر فحسب بل هي كذلك بلد المليون فرصة استثمارية في مجالات كثيرة من أهمها الصيد والتعدين والثروة الحيوانية والطاقة المتجددة. هذا دون أن ننسى الرسأمال الثقافي والروحي الغني بالإمكانات التي يمكن توظيفها في مواجهة الانحراف وفكر التطرف.
كل هذه الاعتبارات تدعونا إلى القول بأن قمة انواكشوط (قمة الأمل) ليست فقط قمة الشعوب العربية التي تعيش فراغا أمنيا خطيرا لكن كذلك الشعوب المهددة بأن تعرف ذات المصير في المستقبل والتي لا تزال هناك فرصة من أجل جعلها تتفادى ذلك المصير المؤلم.