انعقاد قمة العرب، السابعة والعشرون في عاصمة الشناقطة، كشف أن الموريتانيين ( الشناقطة ) شعب غني بالذكاء وأهل للمبادرة ؛ ويتمتع بمستوى رفيع من جمال الذوق والاحساس بالمسؤولية إذا وضع تحت عنوان التحدي ، وقيض له من يفجر فيه كوامن الطاقة ويحرر مخزون العبقرية . فكم عانينا ، لحقب طويلة، من نخب بليت بخيال تائه وفكر شريد وعقل مستلب كليل؛ فأغرقتنا في لجة الضعف وعتمة الأفق ، وقيدتنا بحبال المسكنة في وحل المهانة الآسن.
وأقنعتنا أننا أوهن حيلة وأقل عددا من مجرد الحلم حتى باستضافة أشقائنا على أرضنا ؛ أرض المنارة والرباط ، التي فجر أجدادنا فيها ينابيع الحياة وسطروا فيها روائع منجزات العلم والأدب ، في هذه الصحراء التي يستحيل، على غيرهم فيها، حتى الحياة على طريقة النعم.
لقد برهنت قمة نواكشوط أن الانسان الشنقيطي يستطيع ، في عصره، انجاز ما لا يستطيعه ابن الصروح الشامخات والناطحات الباذخات ، بألطف الأشياء وأعمقها صمتا؛ بخيمة عربية مضروبة في أرض ثغر من ثغور العرب ، مكين وحصين. كما برهنت قمة العرب في أرض العرب أن شعب الشناقطة أنقذ مصير قمتهم من الضياع وسد عنها طوفانا من القيل والقال ونقيع سموم الكيد ما لا تسده الجبال ولا الرمال. وهكذا، تعرف علينا العرب عن قرب،؛ وربما أدركوا أنهم أهملوا عربا أقحاحا ، وأي شعب أضاعوا؟.. إننا شعب نمضي بضعفنا ، إذا استعرنا تعبير الشاعر الزنجي الإفريقي ، شعبان روبرت، وبرغم ضعفنا، ذياك، أدينا قسطنا من الواجب والمقدور ، دون من ولا أذى، بفضل ما استخلصناه من حكمة في صراعنا من أجل البقاء مع الصحراء وجنونها ، أحيانا، ضدنا. لقد كشفنا عمق تجاربنا مع الحياة اليوم من خلال قمة العرب ، ورأينا أننا ك " المجاري لا تدرك ما استقر في أعماقها من مياه الينابيع إلا بعد ما تمر أزمان على ذلك" ، بتعبير نيتشه.
إنه ينبغي أن تكون هذه القمة بداية لتاريخ ونهاية لآخر.. نهاية لتاريخ من القطيعة مع عمقنا.. وبداية للعودة . ف" يجب أن نعود" .. نعود إلى عمقنا القومي ، بعدما قاسينا عذاب التشكيك في مسألة هويتنا. فها نحن حققنا بعقد هذه القمة معنيين: معنى السيادة ومعنى الفاعلية. وها نحن بذلنا ما بأيدينا لأشقائنا ، وما بخلنا ، ففتحنا لهم قلوبنا قبل بيوتنا وخيمنا، وأنشدناهم ما جادت به قرائحنا من أشعار العرب وحفظنا لهم أمجادها وأيامها، وأطعمناهم طعم العروبة صافيا من شوائب الزيف وقشور الحضارة.
وإذا كان علماء النفس يجزمون أنه ّ إذا حدث تقطع في الروابط الأولية مرة فإنها لا تترابط ثانية"، فقد فندنا هذا التأكيد؛ وأكدنا ، نحن، أننا شعب لا يفرط بأواصره ولا يضيق صدرا بأذى أولي القربى وظلمهم أحيانا. . وكنا تمسكنا ، برغم التباعد والإهمال، على معاني القربى وصحة اتجاهها: فقد نشرنا دين الاسلام بأرق معاني المحبة وبأغنى معاني التسامح في شعوب إفريقيا ، وشيدنا، بينكم وبينهم، جسور الثقافة ومددنا بينكم وبينهم عرى المودة والتواصل العقدي والانساني، على أيدي تجار بسطاء ، فعمروا قلوب هذه الشعوب بأنوار اليقين وجذوة الإيمان بهذا الدين العظيم. فحاز أجدادنا بذلك قمة التميز بقوة البساطة ، مثلما هو حالنا باستضافة قمتكم تحت خيمة شدت أطنابها بأوتاد ضاربة الأصالة، في أرض المنارة والرباط، مغمورة بالسكينة والسلام، تحدونا الخبرة في قرى الضيف والرغبة العارمة في خدمة النزيل.
فهذا هو ما بأيدينا في مجال الضيافة ، وما نحتاجه منكم ليس أن نكون زبناء عندكم نشتري منكم ونبيع لكم.. ما نحتاجه منكم هو التكامل بين أقطارنا حتى يشعر كل منا أنه جزء من الآخر وأنه يحرز القوة التي تنقصه في بنائه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والنفسي ، بما يؤكد للأجيال الصاعدة أن محتويات فكرنا وشعورنا الدافق بالانتماء للعرب ليس مشتقا من أوهام ، بل هو انتماء اصيل وعميق وصحيح ومفيد.