لا تبدو القمة العربية التي استضافتها نواكشوط يوم 25/7/2016 ناجحة للرائي من بعد. التمثيل الدبلوماسي ضعيف للغاية، والبيان الختامي مجرد أحاديث باسم قادة لم يحضر ثلثاهم، وثرثرة بأدنى مستويات الأماني العربية. كل ما في الأمر أن العرب ربحوا دورية انعقاد قمتهم، وأن نظام موريتانيا ربح فخرا موهوماً بنتظيم القمة لأول مرة في تاريخ البلد.
قال الجنرال الحاكم في موريتانيا - في مقابلة مع صحيفة الأهرام المصرية - إنه كان "مهيأ نفسيا" لاستضافة القمة بعد اعتذار المملكة المغربية عن استضافتها، وقال إنه أمر أن تنعقد القمة في نواكشوط "مهما كلف الأمر". مشكلة هذا الصنف من الناس أنه يرى نفسه أكثر مما يرى الواقع. كان الرجل مهيأ نفسيا، لكن موريتانيا لم تكن مهيأة بحال من الأحوال. هذه حقيقة عرفها من اقترب من تفاصيل الأحداث، وأنا أحدهم.
كنتُ عضوا في وفد التلفزيون القطري لتغطية القمة، وقد رأيت بعينيْ رأسي ضروبا من الارتجال لم يسمع بها أبو النجم العجلي أو رؤبة بن العجاج.
وعود الهواتف
قبل أن نصل إلى البلد كانت الهواتف بيني وبين وزارة الاتصال ولجنة إعلام القمة وجهةٍ يسمونها "البروتوكول". قالوا لنا: أنتم في ضيافتنا من يوم وصولكم إلى يوم ترحلون، وسنتلقاكم في المطار، وكل شيء مرتب. أخبرت أصدقائي بما وعد به القوم، لكني كنت أحول بين قلوبهم وبين الإفراط في الأمل؛ فأنا عليم بالإدارة في بلدي.
عند المطار تلقانا شباب قالوا إنهم من جماعة البروتوكول. أخذوا جوازات سفرنا لإنهاء إجراءات الدخول، ثم اختفوا. وبعد يومين استلمنا الجوازات من السفارة القطرية. خارج المطار تلقتنا سيارات السفارة القطرية، ولم نجد من "أبطال الهواتف" أحداً. أخذنا القطريون إلى فندق "اطفيلة"، وهو فندق جيد ونظيف. نزلنا هناك وبدأنا نخطط لعمل الغد.
إلى هذا الحد كان يمكن للأمور أن تسير على ما يرام، لكن البروتوكول - الذي لم نجده عند المطار - لن يتركنا وشأننا قبل يذيقنا الأمرّين. أحسّ القوم بالحرج لأنهم لم يستقبلونا، وأرادوا –على ما يبدو- تدارك الأمر، ويا ليتهم لم يفعلوا.
اتصلت بي سيدة فاضلة من جماعة البروتوكول واعتذرت لعدم استقبالهم لنا، وقالت لي: أين أنتم؟ قلت: في فندق اطفيلة. قالت: هل أنت متأكد؟ ألستم في فندق العزيزة؟ قلت: لا. جاءتنا مع شاب وشابة. حدثونا باحترام كبير ولباقة ظاهرة، وأخذوا صورنا ومعلوماتنا؛ لاستخراج بطاقات صحفية لتغطية القمة، كما قالوا.
ضيوف مشردون
بعد ساعتين تقريبا اتصلت بنا السفارة القطرية لتعلمنا أنه تقرر انتقالنا إلى فندق العزيزة. ويبدو أن جماعة البروتوكول طلبت ذلك؛ لأنها تعتبر نفسها المسؤولة الأولى عن تنظيم الضيافة وتحديد المنازل والمضافات. ومن هنا بدأت رحلة النكد.
لمن لا يعرف فندق العزيزة، هو شقق تحمل اسم فندق (كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد)، جدرانه الداخلية مطلية بطلاء أسود أو بنّي غامق جدا يجعل استخدام العين للرؤية نوعا من أذى النفس. يظن داخله أنه يدلف إلى سجن. ظنٌ يقويه تصميم المبنى من الداخل؛ إذ تتفرع سلالمه أمام المرء طرائق قددا إلى غرف مختبئة على نحو يشبه الملاجئ.
في تلك الليلة أمطرت السماء، فامتلأ صدر الفندق المزعوم ماء، ودخل الرذاذ والندى من نوافذ الغرف. كان شيئا سيئا للغاية. لا أعرف كيف دخل ذلك المبنى في قائمة أماكن الضيافة رغم أنهم زعموا أن كل شيء خضع للرقابة والتقويم!.
في الصباح اتصلت بتلك السيدة التي جاءت من جهة البروتوكول، وبالمستشار الإعلامي لوزيرة الاتصال الذي كان وعد بإنجاز كل شيء. أخلينا الغرف وجلسنا زمناً في بهو الفندق المزعوم، وانتظرنا وعود الهواتف، لكن بلا نتيجة. كانت السيدة محترقة القلب على ما حدث لكن الكبراء كانوا لا يهتمون. اتصلتُ سبع عشرة مرة برئيس البروتوكول وبعثت إليه الرسائل، لكن لم يجب!.
خرجنا بأنفسنا نبحث عن مأوى، لكن "الدولة" التي أخرجتنا من فندقنا الأول إلى "سجن عزيزة" كانت قد حجزت كل الفنادق والشقق المفيدة، وبعد بحث طويل وتشرد عثرنا على فندق مقبول واستأجرنا غرفا فيه. "وألقت عصاها واستقرّ بها النوى".
عذاب البطاقات
ليس هذا كل شيء. ما زال في الكنانة سهم تنكيد. إنه البطاقات الصحفية التي قدمنا وثائق الحصول عليها قبل أن نصل إلى البلاد مرة وبعد أن وصلنا ثلاث مرات. طال المطال وتقاذف المسؤولية بين البروتوكول ومستشار وزيرة الاتصال ورئيس اللجنة الإعلامية الذي غضب عندما أعدت الاتصال به بناء على طلب منه.
اضطررنا إلى أن نذهب بأنفسنا إلى مقر وزارة الاتصال، وكنا كمن يطارد خيط دخان.. المستشار كان هنا.. لا، هو هناك.. إنه مع الوزيرة.. الوزيرة لا علاقة لها بالأمر.. الوزارة كلها لا علاقة لها بالأمر.. الأمر بيد البروتوكول.. رئيس اللجنة الإعلامية هو المسؤول.. إنه يركّز كل شيء بيده.. أقاويل سمعناها في تلك الوزارة المهترئة.
كان السقف يتصبب ماء ، وكانت الأواني مطروحة فوق مكتب سكرتير الوزيرة وعن يمينه وشماله تتلقى قطرات الماء. كانوا يدخلون ويخرجون ويتحدثون في هواتفهم لحل المشكلة كما يقولون. كان ضجيجهم كبيرا ولكن بلا نتيجة. قليلون منهم يستحقون عملهم.
قالوا لنا: إن البروتوكول أرسل شخصا ليذهب بنا إلى المركز الإعلامي في قصر المؤتمرات. كان الشخص، هاويَ تصوير يبدو أنه من جماعة الأمن. لم يكن يحمل إذناً ولا أمراً بإدخالنا. عند الباب جعل يترجّى العسكري، لكن العسكري رفض، فدخل لوحده متعهدا بأن يعود بإذن الدخول بعد دقائق، لكننا لم نره. بدا الموقف مخجلا وفاضحا، فقمت بنفسي بنقاش الضابط حدثته عن رداءة هذا الموقف، وفي الأخير تفهم.
حصلنا في قصر المؤتمرات على البطاقات بجهد مشكور من السيدة التي تنتسب إلى البروتوكول. وبدأنا قصة أخرى من العمل في المركز الإعلامي الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئاً.
ليس هذا كل شيء، ففي الجعبة كثير، ليس بعضه ملائما للنشر، لكني لا أختم هذه السردية النكدية قبل أن أقول إن أجمل ما في القمة هو عزائم الشباب والشابات وجهودهم المخلصة والعظيمة.. شباب أختلف معهم في كل شيء تقريبا، لكني أحترم الكثير منهم. شباب انتصبوا للمسؤولية بإخلاص، لكنهم آبوا بالملامة والتعب، وآب كبار المسؤولين الكسولين بالوجاهة والمال والمجد الحرام.