ويضرب في الصميم الفساد العصي

إذا كانت النزاهة تعني الجوانب الأخلاقية والقيم المرتبطة بأداء الموظف مهامه كما ينبغي أمانة والصدق و عناية و إتقانا وحفاظا على المال العام وصونه، فإن الفساد على النقيض منه عبارة عن مجموعة من الأفعال التي يقدم على ممارستها شخص أو مجموعة من الأشخاص بدون وجه حق للحصول على منافع ومزايا بطرق ووسائل مخالفة لما تنص علية القوانين و تبينه التشريعات الداخلية أو الوطنية، و هو بهذا يعد جريمة يترتب عليها العديد من الآثار الخطيرة التي تؤثرة على مسيرة الإصلاح و البناء و التنمية. و الفساد في أبسط تعريفاته عندما يكون مرتبطا بتسيير ممتلكات الدولة العمومية، هو سوء استخدام المواقع و المناصب العامة و استغلالها من أجل التربح الخاص و الكسب بطرق غير شرعية، و يرتبط في هذا السياق بضعف أو غياب مجموعة من المفاهيم و منها الشفافية والمساءلة والنزاهة.

و لأن الفساد وغياب الشفافية والنزاهة ظاهرة متعددة الأوجه و ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية، فإنه يسبب أضرارا بالغة للطبقات الفقيرة في نسيج المواطنين على نحو متفاوت ويعرقل الجهود الرامية إلى تحقيق الأهداف الإنمائية والتنمية البشرية من خلال تقليل فرص الحصول على الخدمات الاجتماعية و تحويل الموارد بعيدا عن الاستثمار في البنية الأساسية والمؤسسات والخدمات الاجتماعية و بالتالي يقوض الديمقراطية و يعطل الحكم الرشيد و يخلخل أركان دولة القانون ويؤدي إلى انتهاكات حقوق الإنسان وتشويه الأسواق كما يهيئ البيئة و المناخ للإرهاب و لازدهار الجريمة المنظمة وغيرها من الأخطار التي تهدد أمن الإنسان و كيان البلدان.
و إذا كان الفساد ظاهرة كونية تعاني منها كل بلدان المعمورة فإن محاربته تتفاوت في الصرامة و فعالية الوسائل إلى ذلك. و في هذا تبقى بلدان العالم الثالث أو النامية في مؤخرة الركب ما يقد مسيرتها التنموية و يعرضها لمزيد من الفقر و التخلف و تغلغل الإرهاب و اتساع الجريمة المنظمة.
و في هذا السياق عرفت موريتانيا في 2008 هبة إلى محاربته و الضرب على أيدي المفسدين فقامت الجهات المخولة بمساءلة العديد من المختلسين و زج البعض منهم في السجن، الأمر الذي فتح بابا عريضا من الأمل في إمكانية الإصلاح و تحصين ممتلكات الدولة و الشعب من الضياع توجيهها إلي بناء و تشييد البنى التحتية الضرورية و المرافق الضرورية من مدارس و مستشفيات و شبكات مياه و كهرباء. و بالطبع فإن النتائج كانت مذهلة و بدأ عهد الجرأة على الإختلاس و التباهي به يختفي، و تبع ذلك تقلص مظاهر ذلك النهب الذي كان ممنهجا و استردت الدولة على إثر المساءلالت التي تلت بعضا من الأموال المنهوبة إلى الخزينة العامة و توقيف هدر المال العام الذي كان يحدث من خلال اقتناء أعداد لا حصر لها من السيارات بكل الأحجام و غيرها من الكماليات، كما أجبر المسؤولون على دفع رسوم فواتير الطاقة و الماء و الهاتف و قلصت أعداد المتحايلين على الرواتب من غير أداء أو حضور أو وجود حتى. فوضى عارمة تم شلها و عقلية "سيبة" تم ضرب بعض أوجهها الفتاكة.  
و لكن الداء العضال الذي تحول من شكل إلى آخر ما زال ينخر جسم الدولة في استناد مرضي على خلفية التركيبة المجتمعية التي تعضضها روح "السيبة" الرابضة في النفوس و المُجمع على أساليبها التي تتعارض مع ثوابت دولة القانون. فقلما يقع مختلس و مفسد في شباك القانون إلا و تهب من حوله "حمية الجاهلية" مرتدية كل أثوابها القبلية و الطبقية و تفوح منها رائحة التحالفات السياسة المستندة على النظم القديمة و المطبقة عليها لتخلصه "بطلا" أثبت قدرته على التحدي و خوض مغامرة النهب و الفساد و التبذير.
و ما قضية "سونمكس" التي ما زالت تغذي الأخبار بتداعياتها إلا إحدى هذه الظواهر المدمرة لمجهود التنمية و المقوضة لأركان الدولة. عشرات السنين غطت على التحايل و مثلهن من الستر المشؤوم على "المسؤولين" كل يمر على الخشبة و لا من يحس أو يخبر عن مضار هذا النهب و التبذير و الفساد.
أما وقد انفجرت القضية و بلغت علم رئيس الجمهورية الذي أمر بأن تسلط الأضواء الكاشفة على كل جوانبها و أن لا يستثنى في المساءلة أي كان فإنه يجب أن تكون النتائج على قدر المنتظر في الضرب على أيدي المرتكبين و ينالون جزاءهم القانوني كاملا من الموظفين و رجال الأعمال و التجار الضالعين و أن تسترجع الأموال و أن يستوعب الدرس و يسري العمل بنتائجه على كل القضيا المماثلة و ما أكثرها إن سقطت أقنعة السيبة و اشتد ساعد العدالة.