الصراع الذي يتابعه العالم في جامبيا بين الرئس الجديد "آدما بارو"، والرئس المنتهية ولايته "يحيى جامي"، يبدو في ظاهره صراعا بين حاكم ديكتاتور ورئيس جاء عبر آليات الديمقراطية، لكن حقيقة ذلك الصراع تكمن بين السنغال وموريتانيا، الدولتان الجارتان لجامبيا، على المصالح والنفوذ داخل هذه الدولة الأفريقية الصغيرة.
ولا يصدق عاقل أن العالم ينتفص فجأة من أجل تسليم السلطة لرئيس منتخب، لدرجة أن يصدر مجلس الأمن قرارا يؤكد على ضرورة نقل السلطة في الوقت الذي اقتحمت فيه مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس) جامبيا بالفعل، بدعوى تأمين عملية تسلم الرئيس الجديد.. كيف نصدق هذا وهناك دول أفريقية جرت فيها انتخابات وأفرزت رؤساء جددا لكن تم الانقلاب عليهم، وحظيت تلك الانقلابات بدعم وتأييد مجلس الأمن والمجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي، بما فيه السنغال؟!
بيت القصيد هو ذلك الصراع التاريخي بين موريتانيا والسنغال – كما أسلفنا - على الانفراد بالهيمنة على جامبيا، ذلك البلد الذي يقع بأكمله في أحشاء الأراضي السنغالية، حيث تحيطه السنغال من شتى الجهات بينما يحده من الغرب المحيط الأطلسي.
ومن هنا، فإن من يملك النفوذ في جامبيا يمتلك أحشاء الدولة السنغالية، وذلك أمر جعل الحكومات السنغالية تتشبث بنفوذها في جامبيا لإسقاط أي ورقة رابحة لموريتانيا هناك، أو بمعنى آخر "نزع خنجرها المدسوس داخل الأحشاء السنغالية".
لكن موريتانيا المشتركة في جزء من حدودها مع السنغال؛ استطاعت على مدى العشرين عاما الماضية؛ أن تجد لنفسها موطأ قدم داخل جامبيا، عبر الرئيس يحيى جامي (المنتهية ولايته). ففي عهد ديكتاتور موريتانيا السابق، معاوية ولد الطايع، وحين اشتد صراعه مع السنغال، وجد في جامبيا ورقة ضغطه الكبرى على الحكومة السنغالية، فوثّق العلاقة مع الرئيس يحيى جامي، بتزويجه من سيدة موريتانية، وهو ما ألهب التوتر بين السنغال والديكتاتور يحيى جامي الذي ظل جاثما على حكم بلاده عشرين عاما.
وقبل أكثر من 11 عاما تدخلت وحدة من القوات الموريتانية الخاصة لإنقاذ "يحيى جامي" من انقلاب محقق، حركته السنغال أثناء زيارته لنواكشوط، لكن القوات الموريتانية التي نقلت جوا إلى العاصمة الجامبية (بانجول) أعادته إلى سدة الحكم ومكنته من إعادة إحكام السيطرة على البلاد.
وبنفس الطريقة تمكنت السنغال من إيجاد رئيس جامبي على علاقة وطيدة معها، وقد توفر ذلك في الرئيس المنتخب "آدما بارو" الفائز في الانتخابات الأخيرة، والذي أدى القسم رئيسا من العاصمة السنغالية؛ نظرا لتعذر دخوله إلى جامبيا وتهديد حياته بالخطر، بعد تعنت يحيي جامي في نقل السلطة، وذلك جميل ستظل السنغال تطوق به عنق الرئيس الجديد، وبالتالي تنتهي قصة سطوة موريتانيا على جامبيا بعد زوال حكم صديقها وخروجه من البلاد إلى غينيا الاستوائية.
ويبدو أن الديكتاتور يحيي جامي كان يخطط منذ سنوات للاستمرار في السلطة، ولكن عبر استلاب ألباب المواطنين (ما يقرب من 2 مليون 90% منهم مسلمون) واحتشادها لانتخابه، ولم يجد طريقا لذلك سوى دغدغة عواطفهم بإعلان البلاد دولة إسلامية عام 2015م، أي قبل إجراء الانتخابات الرئاسية بعام واحد وهي فترة كافية لشحن الجماهير المسلمة للتصويت له والإبقاء عليه. بل وقبل إجراء الانتخابات الرئاسية بأشهر، أعلن التمكين للغة العربية في البلاد التي تعد الإنجليزية لغتها الرسمية، وبرر ذلك بأنه يريد تخليص البلاد من الإرث الاستعماري.
لكن ذلك لم يجد نفعا، فواقع الحال ينطق بأن تلك الجماهير اكتوت بديكتاتوريته على مدى 20 عاما من حكمه، ولم تجد لقيم الإسلام وعدله أثرا في حياتها، ويبدو أنها أدركت أن ذلك متاجرة بالإسلام والشريعة واللغة العربية فاختارت الرئيس الجديد.
ومن ناحية أخرى، فإن خطوات الاقتراب من تطبيق الإسلام استفزت الغرب فوجد في فوز الرئيس "آدما بارو" فرصة للتكتل وحشد القوى الدولية للتخلص من يحيى جامي، وانتهزت السنغال العضو في مجلس الأمن والعضو المؤثر في مجموعة دول غرب أفريقيا؛ فرصة لاستثمار كل ذلك في اقتلاع رجل موريتانيا وزرع رجلها، وكان الشعار الأبرز هو تطبيق الديمقراطية وتطبيق نتائج الانتخابات وتمكين الرئيس الفائز. وكل ذلك حق، ولكن محركاته كانت صراع النفوذ والمصالح وليس مصلحة الشعب الجامبي.
من ناحية أخرى، فإن جامبيا تمثل ساحة للصراع بين مدرستين في الحكم:
1- حكم عسكري متسلط في موريتانيا يمثله الجنرالات، من الجنرال معاوية ولد الطايع إلى الجنرال محمد ولد عبد العزير الذي جاء بانقلاب عسكري عام 2008م، وهو امتداد لحكم الجنرال معاوية ولد الطايع.
2- حكم ديمقراطي في السنغال لم يعرف الانقلابات العسكرية حتى اليوم، ويمارس تداولا سلميا للسلطة، وإن كان للنفوذ الأجنبي رائحة فيه.
ويدور صراع بين المدرستين للتمكين لنموذجها وطريقتها في الحكم تقوية لوجودها وقطعا للطريق على أي مهددات لها. وقد نجحت دولة الجنرالات في موريتانيا في فرض نظام حكم ديكتاتوري في جامبيا، ممثلا في الرئيس المنتهية ولايته "يحيى جامي"، واليوم جاءت الفرصة للسنغال لفرض رجلها الذي جاء في انتخابات حرة، ولا ندري هل ستحرص السنغال على استمرار زرع رجلها مدى الحياة، وتضرب عرض الحائط بالديمقراطية، وهل تفضل الإبقاء على رئيس موال لها مدى الحياة على انتخابات حرة يمكن أن تفرز رئيسا غير موالي؟.. السنوات القادمة هي التي تجيب.
أطرح تلك التساؤلات، بل والتشككات، في موقف السنغال والمجتمع الدولي من الديمقراطية ومن الرؤساء المنتخبين في مقابل مصالحها؛ لأن هناك تجارب سابقة وماثلة بين أعيننا تجزم بتخاذل السنغال والمجتمع الدولي عن نصرة قضايا الديمقراطية ونصرة الرؤساء المنتخبين في أفريقيا تتمثل في:
أولا: لم نسمع للسنغال ولا المجتمع الدولي ومجلس الأمن صوتا عندما قاد النقيب "صونغو" انقلابا في دولة مالي على الرئيس المنتخب "حامادو توماني توري"، في 21 آذار/ مارس 2012م، رغم أن هذا الأخير لجأ مباشرة إلى العاصمة السنغالية (داكار)، فقط تم استقباله ولكن لم يتم اعتباره رئيسا شرعيا ينبغي تحريك مجلس الأمن وتحريك قوات أفريقية لتمكينه من العودة لحكم البلاد، مثلما فعلت مع الرئيس الجامبي الجديد "آدما بارو".
ثانيا: عندما قام الجنرال الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، قائد الأمن الرئاسي، بانقلاب عسكري في 6 آب/ أغسطس 2008م، على أول رئيس موريتاني منتخب، هو سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، بعد عام واحد من حكمه، لم تتحرك السنغال ولا مجلس الأمن ولا المجموعة الأوروبية، ولا فرنسا صاحبة الإرث الاستعماري في موريتانيا وصاحبة النفوذ فيه، لإعادة الرئيس المنتخب مثلما حدث اليوم مع الرئيس السنغالي الجديد. لقد ضاق الغرب كله من الرئيس الموريتاني المنتخب ولد الشيخ؛ عندما بدأ يتخذ خطوات نحو بناء بلده والانطلاق به نحو الانعتقاق من الهيمنة الاستعمارية.
وبينما كانت إرهاصات ذلك الانقلاب العسكري تتفاعل؛ كنت في زيارة لموريتانيا، والتقيت رئيس وزرائها وقادة الأحزاب الرئيسية، وسمعت آراء وتحليلات معظم الفعاليات. وكان الجميع يتوقع وقوع ذلك الانقلاب، وبالفعل وقع الانقلاب بعد مغادرتي موريتانيا بيومين فقط، ولم يحدث أي تحرك لا من السنغال ولا من المجتمع الدولي، لأن الانقلاب جاء لصالح مصالحهم، وسيمكث ولد عبد العزيز في الحكم ما شاء له أن يبقى، طالما رضي عنه الغرب، لكن السنغال ستظل تشاغبه وتعمل على إزاحته، ليس لأنه ديكتاتور، ولكن لأنه يعمل ضد مصالحها ونفوذها في جامبيا، اللهم إلا إن توقف عن ذلك ودخل في مصالحة شاملة مع السنغال!
ثالثا: كانت السنغال ومجلس الأمن والاتحاد الأفريقي وأمريكا وأوروبا، وكل المتشدقين بالتمسك بالديمقراطية، موجودين يوم قام الجنرال عبد الفتاح السيسي بانقلاب عسكري في 3 تموز/ يوليو 2013م على الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب في مصر، وقد تم الاعتراف بهذا الانقلاب ودعمه – إن لم يكن مشاركة البعض في التدبير له - وتم استقبال الجنرال المنقلب في مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي والعواصم الأوروبية، ودعمه بكل صور الدعم.
بل إن الرئيس المنتخب تم الزج به في السجن، مع أكثر من خمسين ألفا من الأبرياء، ولم يحظ بكلمة دفاع واحدة عن حقه في الحياة من كل تلك المكونات الدولية والإقليمية.
إن قيم الديمقراطية والانتخابات الحرة وحقوق الشعوب في اختيار حكامها.. إلخ؛ باتت أشبه بشعارات من الشمع تذوب وتتساقط على الأرض بأيدي قادة العالم مع أي اختبار بسيط لها، وواقع الحال أكثر تعبيرا من أي مقال.
نقلا عن عربي 21