تشكل صور التعذيب مصدر إزعاج بالغ للأجهزة الأمنية والأنظمة الحاكمة والأحزاب الدائر فى فلكها، كما تشكل بعض الصور الأخرى مصدر إزعاج للقوى المناهضة للأنظمة، خصوصا تلك المتعلقة بصحة الرؤساء أو أحداث بعينها تحبط بعض الأخبار أو النظريات المتداولة بين الفاعلين فى الساحة السياسية.
وقد عشت بعض التجارب المثيرة خلال السنوات الماضية، وكان لى مع بعض الصور مواقف قاسية بحكم العمل فى المجال الصحفى، أحببت أن أسجلها الآن فى ظل الجدر الدائر بشأن تعذيب أحد المشاركين فى حراك النصرة بموريتانيا.
التعذيب الممنهج فى مدرسة الشرطة
(*) فى أكتوبر 2004 كنت فى منزل متواضع أجرته فى بوحديده الجنوبية إبان الأزمة السياسية بالبلد ( بيت فى كزره)، إلى أن أتصل بى أحد الأشخاص ، ممن تجمعني معه معرفة سابقة، قائلا إن لديه سبق صحفى مهم دون الكشف عن ماهيته، طالبا منى الحضور فى الغد لصلاة الجمعة فى المسجد السعودى.
بع الصلاة اتصلت بالمصدر فسلمنى رسالة فى ظرف لم أفتحه بحكم التشديد على أهميتها وخطورتها، وعدت بها مسرعا إلى المنزل من أجل معرفة المعلومات المحتمل وجودها داخل الظرف المحكم بإتقان شديد.
عند فتح الظرف كانت الصدمة كبيرة بفعل مشاهد التعذيب القاسية، والأهم من ذلك أن الضحايا هم فى الغالب رفاق تعرفت عليهم أيام الدراسة أو جمعتنى بهم ساحة النضال قبل الإطاحة بالرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع.
أستطعت تمييز ثلاثة دون كبير عناء ( عرفات ولد أحمد / سيدى محمد ولد أحريمو/ الحسن ولد أعمر جوده) وتعرفت على الرابع بعد الاستعانة بصديق ، حيث أكد لى أنه المهندس سيدى عالى ولد سيد الأمين..
أتصلت على الأخ والزميل الصحفى فى مجلة المرصد ساعتها "أمين ولد محمد" وطلبت منه المساعدة فى أمر مهم دون الكشف عن تفاصيله، وقد لبى الدعوة مسرعا كالعادة. وعندما زارنى أخبرته أن لدي صور وأبحث لها عن ناسخ " أسكانير" من أجل استعمالها فى خبر عن التعذيب الممارس داخل المدرسة الوطنية للشرطة.
وقد أخذنى فى جولة تكللت بالنجاح، حيث قمنا بنسح الصور وتحويلها إلى صور قابلة للاستعمال ألكترونيا، وتوجهنا إلى مقهى "دليل"، حيث أشتريت نصف ساعة ب 100 أوقية من أصل 500 أوقية هي كل ما أملك ذلك اليوم.
نشرت الخبر مرفقا بالصور، وعدت لمنطقة "بوحديده" ، وعند صلاة العشاء أتصل على زميلى "أمين محمد" قائلا إن الجزيرة بثت الصور، وإنها أخذت المفكر الإسلامي المقيم فى الولايات المتحدة الأمريكية محمد ولد المختار للتعليق عليها.
فى الغد كنت على موعد مع ضجة تشكيك واسعة ، واتهام للموقع الذى أعمل فيه (موقع الأخبار) بتزوير الصور، وأخذ صور من العراق لتشويه سمعة البلد والانحياز للانقلابيين والعمل من أجل تقويض السلم الأهلى بصور خادشة للحياء ومزورة.
ساعات وتم توقيف محمد جميل ولد منصور والعلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو والسفير المختار ولد محمد موسى بتهمة الوقوف خلف الصور وتوزيعها بغية تحريض الدهماء على الأجهزة الأمنية.
توقف التعذيب على الفور داخل المدرسة الوطنية للشرطة، وأحيل المعتقلون إلى النيابة بتهمة إنتاج ونشر صور خادشة للحياء وتوزيعها، وصدرت مذكرات توقيف بحق آخرين.
وبعد سقوط النظام تحولت الصور إلى جزء من الدعاية الرسمية، حيث باتت حركة التصحيح 2005 مصدر إنقاذ من وضع سيئ كان يمارس فيه التعذيب والتضييق ويحاصر فيه الإعلام الحر، وتتهم فيه القوى الفاعلة فى المشهد السياسى بتهم مفبركة بهدف الإساءة إليها.
(*) صحة الرئيس
أما المشهد الآخر فقد حصل معى 2012 بفعل الخلاف الدائر ساعتها حول صحة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وسط سيطرة مطلقة للشائعات التى تتحدث عن وفاة الرجل سريريا فى باريس، واتهام الجيش بالتكتم عليها من أجل الترتيب لمرحلة جديدة.
فى حدود الثالثة ظهرا دخل علي الأخ الهيبة ولد الشيخ سيداتى قائلا إنه أتصل به شاب قدم نفسه أنه نجل الرئيس وبأن لديه صورة يود إرسالها إلينا توضح وضعه الصحى، وإن لديه مخاوف من أن يكون النظام قد أستهدفنا بغية استخدام مصداقية الموقع الذى نتولى تسييره (الأخبار) للتشويش على المشهد العام والتستر على وضع الرئيس الصحى، الذى تشير كل التقارير الواردة من باريس إلى صعوبته، فما بين متحدث عن وفاة قد حصلت وآخر يتحدث عن عجز كلى للرئيس عن القيام وشلل أصابه بفعل الرصاصة الصديقة يوم الثالث عشر من أكتوبر 2012.
طلبت منه رقم الشاب الذى قدمه نفسه كابن محتمل لولد عبد العزيز.
سألته عن الإسم ، وكانت أول مرة أسمع بأن للرئيس ابنا يدعى " أحمدو" ، وعن مشواره التعليمى؟ وعن مكان سكناه؟ وعن سبب اختيارنا لنشر الصورة؟ وعن إمكانية الحصول عليها فى الهاتف الذى ألتقطت منه فى باريس؟ وعن رقم صديق يؤكد لنا أنه فعلا هو "أحمدو"؟ وعن الهدف الذى يتوخاه من نشر الصورة؟ ولماذا لم ينشرها فى موقع الوكالة الرسمية لطمأنة الناس؟ وعن مدى موافقة الرئيس على نشرها فى موقع الأخبار؟..
سلسلة من الأسئلة كنت اطرحها عليه تباعا وكان يجيب بهدوء وأخلاق عالية، قبل أن يقاطعنى قائلا " ولد أبراهيم أخليل قاع حذرنى من الاتصال بكم سابقا فى قضايا تتعلق بصحة الرئيس، لكنى مازلت على موقفى منكم وأتمنى فعلا أن تنشروا الصورة، لأنها فى النهاية سبق إخبارى، ولا أخفيكم سرا أنها أيضا مصلحة ذاتية بالنسبة لى، فالرجل المريض فى النهاية هو والدى ولا أحب أن تشوه صورته أو يتم تداول أخبار زائفة عنه بهذا الشكل الذى أشاهده كل يوم...
وأردف قائلا هي ستنشر السادسة فى الوكالة الرسمية للأنباء ، لكن خمس ساعات من السبق ستكون مفيدة لموقعكم، ومفيدة أيضا لنا أن تظهر فيه، وجاهز للتأكيد على سلامة الصورة ويمكنكم إرسال أي شخص للتأكد منها على الفور.
أتخذنا قرارا بنشر الصورة بعد مراجعتها فنيا، وكانت الضجة كبيرة فى المعسكر الآخر.
لقد أنتفضت المعارضة فى وجهها أقوى انتفاضة، وأتهمتنا بتهم أقلها السذاجة والاستغلال من طرف النظام، فالصورة مركبة والرئيس ميت أو على قريب منها، وتبارى بعض المدونين فى تفكيك الصورة ولباس الرئيس ولباس الطبيب والغرفة المحيطة بهم، والأجهزة ولون العينين وكل الأشياء التى قد تفيد التشكيك فى مصداقية الصورة واتهامنا بمغالطة الرأي العام بنشر صورة مركبة من رئيس مجهول المصير.
لو كانت حقيقة لماذا لم ينشرها النظام؟ لماذا لم ينشروا فيديو من الرئيس؟ لماذا لم يظهر معه شخص معروف؟ لماذا يظهر نجله أو زوجته فى الصورة؟ لماذا لم يظهر على سرير المرض؟ سلسلة من الأسئلة قاومناها بقوة، ولكن تبين فى النهاية أن الرئيس لم يمت وأن عجزه عن إدارة المشهد مؤقت وأن مصدر الصورة لم يغالطنا وأن سبقنا كان فى محله..
فى مجال الصور الجميع يتحرك من الخلفية التى يتمترس فيها، الصحفى فى نظره متهم وخائن والمدون مفبرك ومتحامل والضحية مجرد ممثل بارع، والمتهم بريئ من كل الأوصاف .. فمتى تنتهى هذه الرؤية النمطية ونتعامل مع الأشياء بعقلانية ؟ ولماذا لايفتح التحقيق فى الصور بشكل مهنى يهدف إلى الوصول للحقيقة بدل التحامل على الناشر أو الضحية؟
(*) سيد أحمد ولد باب / مدير زهرة شنقيط