الدوغائية و الذرائعية وجهان لعملة واحدة هي الإفلاس السياسي فليست الأولى مبدئية فى التصور كما يباهى معتنقوها و لا الثانية واقعية في الممارسة كما يروج منتهجوها.
لقد حسبنا أن الزمن السياسي الذي كانت فيه نخب و أحزاب منطقتنا العربية الإفريقية ترفع المظلات الحمراء و الزرقاء عندما تمطر شوارع موسكو أو باريس عاصمة الأنوار كما يحب أن يكنيها الليبراليون قد ولى كما حسبنا أن زمن الوصوليين و النفعيين ممن يهتفون للزعيم فى الصباح "بعاش" و يهيلون التراب على نعشه فى المساء "بمات" قد ذهب هو الآخر لغير رجعة.
و تضيع حقيقة المرونة و تذهب محاسنها في عجاج الحجاج بين ملأ التيارين المتخاصمين و قد هم كل بشد طرفه من الحبل الذي بدأ خناقه يضيق من حول رقبة هذا الشعب المسالم المطحون بعناد نخبه فالمرونة ليست براكماتية كما يتوهم الدوغمائيون و ليست غائية كما يزعم الذرائعيون انها حالة استثنائية اقرب الى الضرورة يستدعيها حدس الساسة مخرجا في آخر النفق يمنح مشروعهم حياة ثانية من دون المساس بالمبدأ' فالعمل السياسي في اغلبه يقع في دائرة الإجتهاد دون الإعتقاد و مداره على تعقل الواقع و جداله بالتي هي احسن من الحلول الناجعة و المقاربات النافعة مما يمكث في الأرض لا ما يستعلى إلى السماء مقاصد فى الفهوم و النظر و رشدا و حكامة في الوسائل و التبصر و لهذا المعنى الدقيق تفطن من الأولين الإمام الجويني رحمه الله تعالى عندما قال:"معظم مسائل الإمامة عرية عن مسالك القطع خلية عن مدارك اليقين" فلاتعاب المرونة متى أضحت مطلبا فيما لا قطع فيه أويقين من مسائل الاجتهاد إذا طلبت في مظانها وافرغ الوسع في سبيل تحصيلها . إن خيط العلاقة التناسبية بين المرونة والنفعية رفيع وأي انحراف في رمانة الميزان بين الكفتين لن يكون في صالح مصداقية الأولى والخبرة التاريخية لا تسعفنا في هذا المجال بل علي العكس تمدنا بشواهد حية "لمساومات سياسية " شكلت مدخلا لتقديم تنازلات غيرت بشكل ناعم وبالتدريج من هوية ووجهة مشاريع سياسية ومجتمعية عتيدة فباسم الحفاظ علي الألق الثوري من جهة والمرونة إزاء الشعوب والحكومات التي يؤمل ولما تفعل أن تتبني النهج الاشتراكي قام " استالين" رفقة ساعده الأيمن " بيريا" بحملة تطهير واسعة في صفوف أنصار تيار الأممية الاشتراكية بقيادة " ليون تروتسكى " الأقرب ايديولوجيا إلي تمثل فكر " لينين" وهي الحملة التي أضرت قسوتها بالزخم الثوري للبلاشفة ولم تنفع مرونتها الشعوب الأخرى التي سرعان ما فرضت عليها الشيوعية بقوة الحديد والنار وتكشف أن الهدف الحقيقي منها هو إزاحة "تروتسكي " من طريق "ستالين " حيث عاش طريدا في المنافي قبل أن تناله بالاغتيال أيادي ستالين الطويلة .
وباسم المرونة وتليين المواقف سقطت البندقية من يد عرفات - رحمه الله - علي أسوار أو سلو وسقط معها غصن الزيتون الأخضر بعدما ذبل وشطبت معها المقاومة المسلحة من حسابات كبرى حركات التحرر الفلسطيني تاريخا (فتح) وأصبح سلاح المقاومة مادة للمساومة .
وباسم المرونة كذلك يمم الرئيس المؤمن ( السادات) شطرالكنيست وحاضرا فيه وهو الخطيب المفوه عن السلام فتحول بين يوم وليلة من بطل قومي وصانع أمجاد في حرب أكتوبر إلي خائن لله والقضية فاغتيل معنويا قبل أن يصفي جسديا بين جنوده وأركان دولته وقد يؤتى من مأمنه الحذر.
وباسم المرونة ونيابة عنها وقعت جبهة الإنقاذ " الإسلامية السودانية علي تنازلات ايديولوجية وسياسية كبيرة لصالح " متمردي الجنوب" ليس أقلها المساس با استقلال السودان ووحدة أراضيه الموروثة عن الاستعمار الانكليزي .
وشبيه بذلك ما صنعه إخوان لهم بمصر حين تساهلوا مرونة في غير موضعها بإنفاذ " قوانين العدالة الانتقالية علي الفاسدين والمتورطين من جنرالات الجيش وضباط الشرطة المصريين نهبا للمال العام وإعمالا للتقتيل والتعذيب .
وظلوا يشاغلون القوى الثورية المطالبة بذلك حتي فات الأوان وقلب عليهم العسكر الطاولة علي حين غرة.
هذه بعض أخطاء وحماقات أنظمة وحكومات تملك وتحكم حين تستعمل المرونة في غير موضعها فكيف الشأن بالنسبة لمعارضات لا تملك سوى ثقة الجماهير بوعودها التي لم تمتحن في أغلبها.
إن من الفحش السياسي انتظار مثل تلك الحكومات التي تحتكر مصادر القوة جميعا من سلطة وثروة وعسكر .... المزيد من التنازلات تحت يافطة المرونة من معارضات ضعيفة ومحاصرة في معركة سياسية غير متكافئة أرادها النظام بلا قواعد ولا تقاليد إيغالا في النفعية و الوصولية للاوليغارشيا المحيطة به و دفعا نحو مزيد من الدوغمائية والتصلب لأحزاب و قوى ضغط أصبح معامل مرونتها مع الوقت صفريا لا إن هي إلا أسابيع قليلة ويسقطه البنك المركزي من حساباتها لصالح السلطة.
(*) عمدة دار النعيم بنواكشوط الشمالية