قوة الساحل.. تحديات الأمن وهواجس السياسة والتمويل \ تحليل

سيدي عبد المالك \ كاتب وباحث موريتاني متخصص في الشؤون الأفريقية ـ

انتقد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مؤخرا بطء إجراءات نشر القوات العسكرية المشتركة لدول الساحل الإفريقي الخمس. وأثارت انتقاداته تلك موضوع التحديات التي تواجه هذه القوة التي يراد منها ملء فراغ سيخلفه انسحاب قوات "عملية برخان" الفرنسية، التي بدأ الإعداد لسحبها بسبب الخسائر المادية والمعنوية التي تتكبدها في منطقة الساحل.

 

تعقيدات أمنية
تتولى فرنسا هندسة إنشاء القوة الأفريقية الجديدة التي ستضم خمسة آلاف جندي من الدول الخمس الأعضاء: موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد، وبوركينا فاس، وتسعى باريس للبحث لها عن تمويل يحفز الدول الأعضاء على النزول إلى الميدان.

فالدول المشكلة للمجوعة ظلت تتردد في تشكيل قوات خاصة بها، ولعل ذلك راجع إلى تحديات التمويل وضعف الوسائل اللوجستية والعسكرية للقوات العسكرية للدول المنظمة، وتحفّظ قوى إقليمية ودولية على نشر هذه القوات.

وترتكز مهام هذه القوات على محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر وتأمين الحدود، وتتوزع خريطة انتشارها على ثلاث مناطق رئيسية، هي: المنطقة الشرقية وتتولى تأمينها قوات تشاد والنيجر؛ والمنطقة الوسطى وتتولاها قوات بوركينا فاسو والنيجر ومالي، والمنطقة الغربية التي تتولاها القوات الموريتانية والمالية.

ستواجه القوة -التي ستكون بديلا عن نظيرتها الفرنسية- المزيد من الأعباء الأمنية، فهي لا تمتلك من التجهيزات العسكرية والقدرات الاستخباراتية ما يمكّنها من مواجهة التنظيمات المتشددة ميدانيا.

فقوات "عملية برخان" الفرنسية تمتلك ثماني طائرات "ميراج"، و17 مروحية عسكرية، وخمس طائرات بدون طيار  من طراز "رايبرز"، بالإضافة إلى 300 مدرعة، ولديها تعاون أمني واسع مع مجموعات أهلية فاعلة بالمنطقة.

ومع كل ذلك العتاد والدعم الأمني؛ فإن هذه القوات عجزت -طوال فترة وجودها في المنطقة- عن تحقيق انتصار نوعي وحاسم على جماعات العنف والتشدد.

أما الوحدات العسكرية التابعة للدول الأعضاء في قوة الساحل الجديدة؛ فقد أجرت -خلال أكتوبر/تشرين الماضي- تدريبات عسكرية أولية، أطلقت عليها اسم "البقرة السوداء" ونفذتها بدعم من القوة الفرنسية، وذلك في إطار تحضيراتها للانتشار والنزول الميداني.

وقد أظهرت تلك التدريبات أن هذه القوات لا تمتلك المقومات اللازمة لتأمين المنطقة، وكشفت معاناتها من ثغرات كثيرة تتعلق بالتنسيق والتواصل والتكيف مع جغرافيا الميدان، هذا عدا عن ضعف الوسائل وقلة المعدات.

وعدم إعلان وزراء دفاع دول هذه القوة -الذي انعقد منتصف مايو/أيار الجاري- عن تاريخ محدد لنشر القوة؛ يزيد الأسئلة الغامضة التي تتعلق بالتحديات التي تواجهها هذه القوة، حتى وإن كان البيان الذي أصدره الوزراء تحدث عن قرب نشر القوة بعد انتهاء الخبراء الأمنيين والعسكريين من المعاينة الميدانية، ومعرفة مدى جاهزية هذه القوات على المستويين البشري والمادي.

ويتزامن نشر هذه القوة مع توقيت في غاية الحساسية الأمنية؛ فرقعة العنف في الساحل اتسعت جغرافيتها بسبب تناسل التنظيمات المسلحة وتحالفاتها الميدانية، وتمكنها من تحقيق اختراقات أمنية كبيرة في بعض القوميات السود كقومية الفولان. 

ولا شك أن سقف طموح هذه التنظيمات في المنطقة سيكون كبيرا في الأيام المقبلة، فحلم إنشاء مشروع تمددي للاستيلاء على بعض المدن الكبيرة في المنطقة لا يزال يراود هذه التنظيمات، التي كانت إستراتيجياتها الأولى تركّز على التأقلم مع قوميات منطقة الساحل، وتنفيذ عمليات خطف للرهائن الغربيين وتوجيه ضربات لجيوش بعض دول المنطقة.

وقد تستفيد هذه التنظيمات من غياب الدولة المركزية في مناطق التوتر وبؤر الصراع ، مما سيسمح لها بإيجاد ملاذات آمنة وحاضنات مريحة في المناطق التي تتحرك فيها.

ويزيد من تعقيدات السياق الأمني تكثيفُ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مؤخرا أنشطته في المنطقة؛ فقد تحدثت تقارير استخباراتية عن هجرة الكثير من عناصر التنظيم من سوريا والعراق  -بعد تراجعه العسكري هناك- إلى منطقة الساحل الأفريقي.

تحفظ وتوجس
يتسم سلوك بعض الدول الأعضاء في مجموعة الساحل -مثل موريتانيا وتشاد- بالتوجس وعدم التحمس لنشر هذه القوات؛ فتشاد صرح رئيسها مع بداية إرهاصات الحديث عن القوة بأن بلاده لن تكون معنية بتشكيلها، محتجا على تخاذل القوى الغربية عن تقديم دعم مالي لبلاده مقابل ما بذلته من جهود في محاربة الإرهاب بالمنطقة.

وأما موريتانيا؛ فإن موقفها ظل غامضا منذ البداية بخصوص استعدادها للمشاركة العسكرية، ولما أعلنت مشاركتها ظلت تشرطها باستمرار الحصول على المساعدات المالية التي تؤمن لهذه القوة الاستمرار في الميدان لأمد بعيد.

كما أنها تغيبت عن التدريبات الميدانية العسكرية الأولوية، وأبطأت في تعيين منسقين عسكريين في القيادة العليا المشتركة للعمليات العسكرية للقوة.

ولا يزال  الفيتو الأميركي يشل حركة هذه القوة بشكل كبير على مستوى مجلس الأمن الدولي، رغم اعتماده بالإجماع -قبل عدة أشهر- للقرار رقم (2391)، المتعلّق بدعم القوات المشتركة التابعة للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل.

فالولايات المتحدة الأمريكية تبدي تحفظا كبيرا بشأن هذه القوة، ورفضت قبل أيام طلبا تقدم بيه الأمين الدائم لمجموعة الدول الخمس بالساحل لمجلس الأمن، حين طالب بتفويض هذه القوة الحصول على الوسائل اللوجستية الإضافية.

الجزائر بدورها تنظر بعين الريبة إلى هذه القوة التي ترى فيها ذراعا عسكرية لفرنسا في المنطقة، ومن هذا المنطلق تحرص الجزائر على إرسال جميع الرسائل بطرق مشفرة لتأكيد رفضها لوجودها.

وتحكم ذات النظرة المتوجسة بعض الأطر والمنظمات الأفريقية الأخرى؛ فبالنسبة لمجموعة التنمية الاقتصادية لدول غرب افريقيا (إيكواس) -وإن كانت لا تُظهر تحفظا معلنا تجاه مجموعة الخمس لدول الساحل- فإن ميلاد إطار أفريقي في فضاء تتبع نسبة 55% من أراضيه لدول أعضاء بالمنظمة (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) يطرح حرجا أخلاقيا على المنظمة، ويُظهرها بمظهر العاجز عن اتخاذ مبادرة لإحلال السلم وتحقيق التنمية وجلب الاستقرار إلى الساحل.

 

وعلى المستوى المالي، يبدو أن حركة محفظة تمويلات القوة (البالغة حوالي 450 مليون يورو) تسير بوتيرة بطيئة؛ فالقوة حصلت لحد الساعة على 414 مليون يورو على شكل تعهدات.

ثم إن الجهات الرئيسية المهتمة بالساحل –كدول الاتحاد الأوروبي - تواجه متاعب اقتصادية ومالية، ستؤثر حتما على استمرار التزاماتها المالية في المستقبل تجاه هذه القوة.

أما الدول الأعضاء في قوة الساحل فإنها لا تملك مقدرات مالية تمكنها من التمويل الذاتي لقوتها، كحال القوة المتعددة الجنسيات التي تم إنشاؤها عام 2015 لمحاربة تنظيم "بوكو حرام" في منطقة حوض تشاد، والتي تتولى نيجيريا تحمل أعباءها المالية.

غير أن أكبر التحديات -التي لا تُطمئن على مستقبل بقاء هذه القوة لفترة طويلة- يتمثل في النفور (إن لم نقُل الكراهية) الذي يسكن نفوس القوميات التي ستنتشر على أرضها هذه القوة تجاه بعض الجيوش المشكّلة لهذه القوة، فجيوش النيجر ومالي وتشاد لها عداء تاريخي مع شعوب المنطقة.

فقد لعبت هذه الجيوش أدوارا كبيرة في قمع الثورات الشعبية الانفصالية التي قادتها قوميتا العرب والطوارق في المنطقة، الأمر الذي يجعل هذه الجيوش غير مرحب بها من طرف شعوب المنطقة المغلوبة على أمرها.

وقد تلعب نتائج الانتخابات الرئاسية المنتظر تنظيمها خلال يونيو/حزيران الجاري في مالي ومنتصف 2019 بموريتانيا تغييرا في أجندات نظاميْ البلدين، من خلال اعتماد مقاربات السلم والتنمية كخيارات إستراتيجية لمعالجة الأزمة الأمنية بالساحل عوضا عن التركيز على الحل العسكري والأمني.

نقلا عن الجزيرة نت