تسارعت وتيرة التحضيرات داخل معسكر الأغلبية الداعمة للرئيس محمد ولد عبد العزيز، تمهيدا للإنتقال المحتمل للسلطة من الرجل الممسك بزمام الأمور منذ الثالث من أغشت 2005 إلى آخر، لايزال الجدل بشأنه مستمر داخل أهم الدوائر المعنية بصنع القرار، بحكم الإرباك المتعمد، والغموض الذى يحيل إليه كل اجراء بعد الآخر، رغم المسارعة فى التحضير، وتجهيز الساحة السياسية لحدث يعتير بالغ الأهمية فى مسار البلد نحو الديمقراطية من جهة، والتداول على أهم منصب داخل الجمهورية الإسلامية الموريتانية، بعد فترة من الغموض والشك داخل أروقة النخبة المعارضة، والاستعداد لمغادرة الرجل مع التمسك برموز حكمه ومشروعه داخل أروقة الصف الأول من الداعمين له منذ انقلابه الأخير ( السادس من أغشت 2009).
ومع اقتراب ساعة الصفر، ودخول البلاد فى الإجراءات الممهدة للحملة الرئاسية المحضرة لانتخابات 2019، بدت المعارضة وكأنها متشبثة بالتمديد للرجل أو غير معنية بالاستحقاق الانتخابى، بعد سنوات من التظاهر لإجبار الرئيس على الرحيل ، وسنتنين من الجدل حول المأمورية الثالثة ومخاطرها السياسية والأمنية وتعارضها مع نص الدستور.
بينما أنشغل الرئيس - المتهم دوما بالسعي لخلافة نفسه - فى التحضير الممنهج لمغادرة الحكم وفق الآجال الدستورية، وأعاد ترتيب أوراق اللعبة من أجل تحكم أكثر فى المشهد العسكرى والأمني والسياسى وأبرز الدوائر الإقتصادية لتأمين وضعية سياسية تسمح له بالمغادرة إلى منزله فى انواذيبو، بعد اختيار من يخلفه من الدائرة المحيطة به، وقطع الطريق أمام أي مفاجئة قد تحملها رياح التغيير سنة 2019 أو أي طموح محتمل لبعض أركان حكمه من المدنيين أو العسكريين، أو متغير آخر قد يسمح لمعارضيه - وقد توارى أكثرهم عن المشهد بعد الانتخابات الأخيرة - من خلق جو ضاغط أو الدفع بمرشح منافس، قد يقلب الطاولة على رأس المنظومة الحاكمة، فأحوال العالم الثالث قلب، ومراحل الإنتقال تحتاج إلى تدبير رشيد.
لكن مجمل اجراءات الرئيس محمد ولد عبد العزيز المحضرة لانتخابات 2019 ، رغم الوضوح الذى اتسمت به، والإعلان عنها بشكل صريح، زادت من ارتباك النخبة المتابعة لها، وخلطت الأوراق بشكل غير مسبوق، وتركت المجال مفتوحا على أكثر من احتمال، وتراجعت نظرة البعض لأوزان المحيطين بالرجل، وتحرك مؤشر الحظوظ شمالا وجنوبا مع كل اجراء يعلن عنه، بل إن البعض بات يميل إلى استقرار الرجل فى الحكم رغم تأكيده المتكرر على المغادرة بشكل طوعى، والإلتزام بالآجال القانونية المنصوص عليها فى الدستور.
فمع إعلان قائمة المرشحين للمناصب التشريعية والبلدية تداولت النخب اسم المرشح المحتمل لخلافة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، إنه الفريق محمد ولد الفزوانى قائد الأركان العامة للجيوش، فأبرز منافسيه المحتملين على الحكم، وصديق الرئيس الغامض والمتوارى عن الأنظار ، رغم النفوذ والتأثير، بات أبرز طموح له - بحسب البعض - منصب نائب فى الجمعية الوطنية عن دائرة "تيرس زمور" ، بعد أن كان عمدة لها منذ انتخابات نوفمبر 2013.
لكن الرئيس محمد ولد عبد العزيز لم يمنح بعض المحللين أكثر من أسبوعين فقط،حيث بدأت الترتيبات داخل المؤسسة العسكرية لتأخذ شكلها المتوقع، لقد خرج القائد العام للأركان العامة للجيوش الفريق حننا من القيادة إلى منطقة الساحل، كانت الرسالة الأبرز ساعتها بأن التمديد غير مطروح، وأن التغيير قادم وعلى أكثر من جبهة، وأن النخبة العسكرية المحيطة بالرئيس قد يستفيد أبرز رموزها من تقاعد مريح يكفيه مؤونة الواقع الصعب الذى آلت إليه أوضاع بعض الضباط الآخرين، مع ترتيب اللعبة داخل الجيش قبل إعلان المرشح المحتمل لمنصب رئيس الجمهورية، وهو مايضع أكثر من سؤال عن المخطط الذى ينوى الرئيس الخروج به للناس، بداية دجمبر 2018 أو نهايته على أبعد تقدير.
ومع نهاية سبتمبر 2018 عاد صديق الرئيس إلى التداول من جديد، إنه المرشح الأفضل لقيادة الجمعية الوطنية ( البرلمان)، واضعا الحد لعرف دأب عليه حكام البلاد منذ فترة، عبر اختيار أحد الأرقاء السابقين لتسيير المؤسسة التشريعية، ومعطيا إشارة بالغة الأهمية فى مسار الرجل الصاعد نحو دوائر الحكم بشكل سلسل، بأن وجوده داخل البرلمان سيكون حتما عبر قمرة القيادة، تماما كما كان وجوده داخل المجالس المحلية طيلة السنوات الخمس الماضية، بعدما أختير رئيسا لرابطة العمد، لاعضوا فى الرابطة، بعدما ظلت القيادة فيها دوما من نصيب عمد العاصمة نواكشوط، أو رئيس المجموعة الحضرية، بحكم المتعارف عليه لدى الناس من أوزان تجعل الهامش على الهامش، وتمنح المركز الأول للمركز.
ساد جو من الشك والغموض داخل أروقة النخبة الموالية للرئيس، وزاد منه تصعيد النائب المعارض قبل يومين من انتخابه "بيجل ولد حميد" نائبا لرئيس البرلمان، فمع ترشيحه من طرف حزب الاتحاد من أجل الجمهورية نائبا لرئيس الجمعية الوطنية وهو فى مقاعد المعارضة داخل البرلمان، ساد الغموض بشأن الترتيبات الجارية، ولم يخف البعض اقتناعه بأن نائب أزويرات الشيخ ولد بايه بات الأقرب للفوز بترشيح الرئيس، وأن مروره بالجمعية الوطنية هو حلقة من حلقات التصعيد الممنهج لرجل يراد له أن يخلف أبرز فاعل فى الأغلبية خلال العشرية الأخيرة، وأن البرلمان سيعود إلى سابق عهده بعد أشهر قليلة ، حصة من الحصص الممنوحة للأرقاء السابقين وفق الأعراف، وأن الحماس الذى أبداه الزعيم النقابى المعارض سابقا "بيجل ولد حميد" له مايببره، فقيادة المؤسسة التشريعية حلم يراود أي نائب داخل البرلمان، ومنحها لرجل ثقة وقادر على التأقلم مع أي مستجد قد يكون أهم لدى الرئيس من الإستثمار فى شخص ضعيف من المحيطين فى الوقت الراهن، مهما كان انحيازه المفترض للمشروع الذى يرفعه الرئيس ويكافح من أجله.
عاد ولد بايه إلى منفاه الأختيارى لمتابعة وضعه الصحى الناجم عن حادث هز أركان السلطة بموريتانيا، لكن الجدل بشأنه أستمر، فبين مقتنع بأنه الخليفه الأنسب للرئيس محمد ولد عبد العزيز، وبين مدافع عن وجهة نظر أخرى ترى أن قائد الجيوش الفريق محمد ولد الغزوانى هو الرئيس القادم، وأن رئيس الجمعية الوطنية هو أحد أركان المنظومة الحاكمة، وقد أراد له الرئيس تسيير أبرز مؤسسة تشريعية فى البلد، واستقراره على رأسها قد يكون أبرز أجندة الرئيس خلال السنوات الخمس القادمة من أجل ضمان الإستقرار وتفادى أي تعارض أو اضطراب بين أركان حكمه، وهو خارج الحكم.
ومع تكليف الوزير الأول محمد سالم ولد البشير بقيادة التولفة الوزارية الجديدة، وخروج سلفه من دائرة صنع القرار والتأثير، عاد الملف الرئاسى إلى الواجهة من جديد، بعد التعيين المفاجئ للرجل الأول فى المؤسسة العسكرية الفريق محمد ولد الغزوانى وزيرا للدفاع، بعدما كان الجميع يعتقد أن حفل الإستقلال بالنعمة سيكون آخر ظهور له فى المؤسسة العسكرية بنياشين العسكر، وأن إشارة تكليفه بالترشح يجب أن تأتى من الرئيس وسط الجماهير، بدل طمره فى مشهد حكومى يضم الغث والسمين، ويحمل فيه البعض ألقابا لاتناسب حضوره فى الساحة المحلية أو علاقته برموز الحكم على الإطلاق.
كان مشهد المهنئين للرجل داخل منزله بقيادة الأركان العامة للجيوش بعد ساعات من تكليفه بمنصب وزير الدفاع فى الحكومة الجديدة ، مشهد يليق بمرشح محتمل لرئاسة البلد بعد شهرين أو ثلاثة،لقد توافد أركان المؤسسة العسكرية والتنفيذية وقادة الأحزاب السياسية ونشطاء القبائل والمجتمع المدنى لتقديم واجب التهنة والظهور إلى جانب الرئيس المحتمل، لكن أول ظهور للوزير فى المجلس الوزارى زاد من ارباك النخبة، لقد كانت المسافة بينه وبين الرئيس محمد ولد عبد العزيز تشى بأن متغيرا آخر قد طرأ، أو أن رسالة ما يراد فهمها من خلال الموقع والتموقع، وأن نهاية الرجل السياسية قد تكون وزيرا للدفاع فى تشكلة حكومية تتولى تسيير البلد إلى غاية العودة المفترضة للرئيس.
غير أن للبعض الآخر رأيه فى الترتيبات الجارية، فالفريق محمد ولد الغزوانى لايزال كما هو، مرشح محتمل للرئاسة، وصديق ثقة للرئيس، والوزارة ليست أكثر من تحضير اضطرارى لقائد عسكرى يراد له أن يترشح لمنصب الرئيس، لكن هذه المرة كمدنى بدل الخروج من البزة العسكرية إلى مقر الحملة الانتخابية فى بلد تحاول القوى المعارضة فيه أن تجعل من ادارة العسكر للبلد مسبة يجب التكفير عنها وغلطة تكفى لانتزاع الشرعية من أي حاكم مهما كانت خبرته أو تجربته أو تضحيته من أجل انقاذ البلد من ويلات الحروب أو هشاشة المنظومة المدنية الحاكمة فى لحظات ضعف تمر بها كل الدول والأمم.
ومهما قيل عن تحضير محتمل لوزير الدفاع الفريق محمد ولد الغزوانى أو سيقال حسم الموقف لصالح رئيس البرلمان النائب الشيخ ولد بايه ، فقد نجح الرئيس محمد ولد عبد العزيز فى ارباك النخبة السياسية فى لحظة كان البعض فيها يتوق لاجراء يجلى ماغاب عنه من تخطيط وتشاور وتحضير خلف الكوالس.
غير أن الغريب فى العملية السياسية الحالية ليس حالة الإرباك التى دفع إليها الرئيس أنصاره وخصومه على حد سواء، بل الإرتباك الذى طبع سلوك أبرز معارضيه، وهم يتلهون بتفسير أي اجراء يتخذه الرجل لصالح هذا الطرف أو ذاك، والتحذير من الزج بالجيش فى العملية السياسية أو تقويض المؤسسات المالية أو المشاركة فى حرب استنزاف جديدة بجمهورية مالى المجاورة، بينما غاب أو غيب ملف الإستحقاق الأهم عن أجندة كل المعارضين خلال الأشهر الأخيرة.
فرجل الأعمال المعارض محمد ولد بوعماتو بعدت به شقة "ابروكسل" بعدما كان حاضرا بحكم قرب "مراكش" ودعم حكامها غير المعلن لكنه جد ملموس، وأحزاب التحالف والتكتل وحاتم وعادل وحاتم واللقاء عصفت بها نتائج الإنتخابات الأخيرة، وأجبرتها على العدول عن التفكير بخوض الإنتخابات الرئاسية بشكل مستقل، أما حزب التجمع الوطنى للإصلاح والتنمية المعارض، فمن غير المطروح أصلا خوض رئيسه للانتخابات الرئاسية، بحكم طبيعة الرجل غير الميال للألقاب ( مرشح سابق للانتخابات الرئاسية) أو مكانة الحزب فى المنظومة السياسية بعد الهزة التى مر بها جراء الإستهداف العلنى من طرف الرئيس وبعض الدوائر المحيطة به، والإنكشاف الذى تمر به مجمل الأحزاب السياسية الإسلامية بعد الثورة المضادة، مما جعل أبرز منظريها فى تونس يمنح الثقة لرئيس يتهمه رفاقه بالضعف والفساد، بدل الدفع بمرشح من حزبه أو القوى السياسية التى ناضلت معه من أجل تحرير تونس من قبضة ابن على ورموز حكمه.
أما الطرف الثالث داخل المعارضة فقد تكفل القضاء بتحييده، بعد دعوى سب وقذف كانت المنظومة القضائية متفاعلة معها بشكل كبير، ولم يتعامل معها "بيرام ولد الداه ولد اعبيدى" بالحكنة السياسية المطلوبة، من خلال سحب الذريعة والإعتذار للصحفى، ربما لثقته بأن المنظومة القضائية ستمنحه حرية مؤقتة أو لتقدير آخر كان أصحابه يرون أن نتائج الإنتخابات التشريعية كفيلة بتقويض الدعوى، وأن الحكومة ستفرج عنه فور انتخابه بمجلس النواب.
لقد ظهرت المعارضة فى الفترة الأخيرة وهي خارج اللعبة السياسية، مكتفية بنصر جزئى حققته فى احدى الدوائر البلدية بنواكشوط ( عرفات)، تحلل رسائل الفوز وتناقش سبل تعزيزه وتحتفل بصناعه المفترضين، دون تنسيق أو تحالف موسع أو التنازل عن طموح لاتسعفه موازين القوى من أجل اختيار مرشح من خارج الأحزاب التقليدية لخوض المعركة الحالية، رغم تشكيل بعض أطرافها للجنة مكلفة بالتحضير للرئاسيات قبل سنتين، لكنها ظلت مجرد لجنة هامشية فى تشكلة رتيبة وغير متجانسة وتفتقد للثقة بين كل الأطراف المشكلة لها منذ تفجير بعض رموزها للحوار الأخير مع السلطة أو بعض أركانها على أقل تقدير.
سيد أحمد ولد باب / مدير زهرة شنقيط