"كان فى رحلة مستعجلة لم ندرك كل تفاصيلها، حاولنا إقناعه بالانتظار من أجل التقاط الأنفاس فى صحراء مترامية الأطراف، وقد أخذنا "آدرس" إلى القطيع من أجل جلب بعض الألبان له ولرفاقه المنهكين بفعل وعورة الطريق وبعد المسافة، لكنه قرر الرحيل فجأة باتجاه " أم أورواره"، وكانت سيارته رباعية الدفع لافتة للانتباه، ومعه ثلاثة عسكريين ومدنى واحد".
يواصل " ح/ م" حديثه وهو يتذكر آخر كارثة ضربت المنطقة بفعل العطش، بعدما عصفت صحراء "أظهر" بحاكم المقاطعة وقاضيها، واثنين من الجنود المرافقين له، وأنقذت الأقدار ثالثهم بعدما وصل إلى مخيم قرب منطقة "أم أورواره" عاريا من كل ثيابه، وهو ينشد شربة ماء، بينما كان القدر أسرع إلى رفاقه من جهود كل المسعفين الدين حاولوا التدخل فى الوقت الضائع.
ليست تلك المأساة الوحيدة لكنها الأفظع خلال العشرية الأخيرة، فكثيرا ما أنتقى العطش أطايب القوم ، وكان للشيوخ الطاعنين فى السن ورعاة الماشية النصيب الأوفر، فى منطقة تتربع على أكبر بحيرة جوفية بموريتانيا، ويسهل فيها حفر الآبار بشكل كبير.
تعطلت سيارة حاكم "ولاته" عليه رحمة الله، ومعها تغيرت وجهة الرحلة باتجاه الدار الآخرة، بعدما عز المسعف وضعف دور الدليل، وتاهت أقدام الرجال فى صحراء أظهر الثقيلة، وانقطع الاتصال وانعدمت نقاط المياه.
يتذكر السكان بغرابة كيف خسرت الإدارة الموريتانية أحد رموزها فى منطقة باتت اليوم أبرز مصدر للمياه فى موريتانيا بعد النهر العابر للحدود، وكيف تحولت " أم أورواره" من منطقة صحراوية مهجورة إلى تجمع سكنى تهفو إليه قلوب العابرين للطريق، بعدما تمكنت بعض الأسر من حفر بئر تقليدى في المنطقة على بعد 70 متر ( حاسى أهل أخيارهم)، وهو ما فتح المجال أمام تجمعات مشابهة " حاسى جدو" و"حاسى أهل ميجه" و" حاسى لجواد" قرب "لفرايس"، رغم الدور السلبى الذى لعبته الإدارة الإقليمية أنذاكـ ومحاولتها منع الحفر فى المنطقة بدعوى عدم الترخيص، وهو أسلوب دأب عليه بعض الإداريين فى الحوضين ترضية لبعض النافذين أو دفعا باتجاه حلول غير أخلاقية لكل اعتراض غير مؤسس...
عند منطقة " حاسى لجواد" على بعد 69 كلم من ولاته شرقا، يتحدث نجل الرجل الصالح "أحبيب ولد أجبوبه" عن المشقة التى كابدوها وهم يحاولون حفر آخر نقطة مياه فى الصحراء الموريتانية، والتكاليف الباهظة لبئر بات اليوم أبرز وجهة للباحثين عن الماء الصالح للشرب بالمنطقة والمراعى المتوفرة، حيث يؤمن البئر الشراب لكل قاصديه بالمجان، وتبدو كميات المياه فيه مستقرة بعدما تم الحفر إلى أن تم ربطه بمياه "بحيرة أظهر" على بعد 69 متر، مما وفر كمية كافية من المياه على طيلة العام لساكنيه والباحثين عن المراعى فى فصل الصيف من سكان "ولاته" و"النعمة" و"الباطن"، وكانت الأشهر الأخيرة أفضل مثال، حيث تمركزت قطعان الماشية بالآلاف قرب المنطقة هربا من جفاف ضرب الحوضين، وتعامل ملاك البئر بأريحية كبيرة مع كل الوافدين للمنطقة من أدغال أوكار إلى أن حلت مشكلة المراعى بفعل أمطار الخريف.
قبل سنوات قليلة أطلق الرئيس محمد ولد عبد العزيز أعمال أبرز مشروع للمياه بمنطقة الحوضين، وكانت الأعمال التجريبية فى المنطقة لصالح سكان البئر، لقد تمكنت الشركة من حفر بئر تجريبى عند الأطراف الشرقية لحاسى لجواد ، حيث استقرت أسر أهل أجبوبه وأهل أحمد كورى" فى المنطقة بعد عقود من التحرك شرقا وغربا فى رحلة انتجاع تمتد من " لفوده جنوبا" إلى " لمريه" شمالا، ومن "ولاته" غربا" إلى "حاذ ولد الغوث" شرقا، يتنازعون المراعى والاستقرار فى المنطقة مع فلول القاعدة وشبكات التهريب، قبل دخول الجيش الموريتانى إلى المنطقة خلال العشرية الأخيرة والتمركز فى بعض المناطق وتسيير دوريات مكثفة فى حربها المفتوحة مع القاعدة وأخواتها، ناهيك عن حركة الطيران شبه اليومية.
سمحت الشركة للسكان باستخدام الحفر الجديد بعد استغلال غيره، وتم اقتناء مضخة مياه وطاقة شمسية بتمويل من بعض السياح القطريين قبل فترة، ومع ارتفاع الطلب على المياه تم شراء مولد كهربائى بجهود محلية بمبلغ ناهز مليون و500 أوقية قديمة، لكن القرية المحيطة به ظلت غير قادرة على استغلال أكبر مخزون للمياه بشكل جيد بفعل غياب شبكة للتوزيع داخل القرية، وسط عزوف الإدارة الإقليمية عن توجيه المشاريع التنموية مهما كان نوعها للمناطق النائية، وغياب أي سند يمكن سكان المنطقة ممن حافظوا عليها لعقود كثيرة من وضع حد للمعاناة التى عاشوها، حيث يتولى الأطفال والنساء فى أحايين كثيرة جلب المياه من بئر تقليدى يبلغ طوله 69 متر على ظهور الجمال، وهو مايعنى استمرار المآساة لجيل ولد وترعرع فى صحراء لم تنل حظها من التنمية والتعمير.
يرى الناشط السياسى "الكنتى ولد حماه ولد المختار" أن مياه أظهر شكلت أبرز متنفس للعطاش فى "النعمة" و"تمبدغه" و"جكنى" و"أمرج" و"لعيون"، لكن سكان "أظهر" المحيطين بنقاط الحفر وشبكات التوزيع لايزالون خارج اهتمام القطاعات الوزارية المعنية بالملف، رغم أن بضع حنفيات فى المناطق السكنية المتناثرة فى "أظهر" كافية لحل الإشكال القائم منذ تأسيس الدولة الموريتانية الحديثة، وفرصة كذلك لإطلاق مشاريع زراعية بالمنطقة الصحراوية الصالحة لزراعة الخضروات والأشجار، وإعادة الاعتبار لمن رفضوا مغادرة الصحراء رغم شظف العيش وندرة المياه وجو الخوف المحيط بالمنطقة وساكنيها، واختاروا المقام فيها بعدما زلت أقدام آخرين، واندثرت آثارهم بفعل الرمال المتحركة والهجرة نحو المدينة بحثا عن لقمة العيش أو تخففا من وطأة الضغوط المتصاعدة بفعل الجفاف وغياب اهتمام النخبة السياسية بالصحراء الموريتانية وساكنيها.
عايش الكنتى ولد المختار مجمل التحولات التى عرفتها المنطقة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وعاش فى منطقة أظهر قبل حفر الآبار الجديدة فيها، ويدرك أكثر من غيره كيف قاوم الجيل الحالى قساوة المناخ الصحراوى، وكيف كانوا يجلبون المياه على ظهر الجمال من مساحات تتجاوز 150 كلم ، وتستغرق قوافل المياه (أروايه) يومين من أجل الوصول إليها.
وينشط الشاب البالغ من العمر أربعين سنة اليوم فى تحالف شبابى ( تحالف الأمل فى الحوضين) من أجل إعادة الاعتبار للمنطقة وساكنيها، وربط جسور التواصل بين أبناء المجتمع الواحد، بعدما فرقتهم الجغرافيا وجمعهم التهميش والشعور بالغبن، والعمل من أجل جلب مشاريع تنموية للمنطقة من أجل مساعدة ساكنيها على الاستمرار فى جهد بالغ الأهمية، ويحدوه الأمل فى إعادة فك العزلة الحضارية عن سكان أظهر، عبر حراك ثقافى يربط أبناء المنطقة بواقع البلد وتطور الأحداث فيه، وقوافل صحية تمد يد العون للمحتاجين إليها أوقات الضيق، والعمل من أجل بعث التعليم الأهلى بالتجمعات السكنية المعزولة ( المحاظر)، وقد انشغل الناس بتدبير لقمة العيش والانتجاع خلف أخفاف الإبل عن التعليم، وشطت بهم الدار عن حواضر ظلت إلى وقت قريب مصدر إشعاع وتربية وتعليم، ناهيك عن خلق فرص للنساء عبر تمويل مشاريع تشاركية صغيرة والوقوف إلى جانب السكان فى عز الصيف حيث تقسوا الصحراء على ساكنيها وتتراجع القوة الشرائية وتغلوا أسعار المواد الغذائية ويقل تداول الموجود منها بفعل وعورة الطريق وانشغال جالبيه بواقع الثروة الحيوانية المعقد.
------
(*) أم أورواره : باتت قرية كبيرة بعد حفر "أهل أخيارهم لبئر تقليدى بها
(*) آدرس : هو الآلة المعدة من الأشجار لحلب النوق فى الصحراء
(*) حاسى لجواد: هو آخر نقطة مياه فى أظهر شرقى ولاته
(*) حاذ ولد الغوث : منطقة صحراوية تتجه إليها قطعان الإبل وملاكها فى فصل الشتاء بحثا عن "الحاذ" وهو نبتة شهيرة بالمنطقة ومحل طلب دائم من قبل الرعاة .
(*) فى المنطقة تنعدم المدارس والمحاظر بشكل كامل، ولا وجود لأي مظهر من مظاهر الدولة الحديثة سوى دوريات عابرة للمنطقة تابعة لقوات التدخل السريع المتمركز فى "أنبيكت لحواش" أو منطقة "صلاح الدين" بآدرار.