بعد خمس ساعات من التيه داخل شوارع العاصمة نواكشوط، حط سكان ترمسه الرحال عند بوابة القصر الرمادي بموريتانيا أملا في لقاء الرئيس، لعرض مشاكلهم المتراكة بعد ثلاثة أيام من السفر الشاق عبر طرق تمتد أكثر من ألف كيلومتر.
يندب أباي ولد عبد الله ورفاقه حظهم العاثر، وقد تخلوا كما هو حال الآلاف عن مسكانهم السابقة، ومياههم العذبة، وفككوا مدارس قراهم الجميلة، وحطوا بتجمع أريد له أن يكون أبرز رسالة يوجهها الرئيس لسكان الريف.
ملايين من الأوقية تم صرفها، ومشاريع كثيرة تم اطلاقها نظريا، وأسفار حلت مشاكل تدريس الأبناء بالنسبة للوزراء والإداريين، لكن الجميع تمخض عن أكبر حشد من المعذبين بأودية "الرزام" المنكوبة، وضياع جيل تحول من حياة الريف في الريف إلي حياة الريف في المدينة.
يتوهم ولد عبد الله أن الرئيس سيستقبله، أو أن الحكومة ستهتم به، أو أن نواب الأغلبية سيمنحونه وقتا لسرد شكواه، إنه ضحية تطبيل تمارس بعض أبواق النفاق عبر الأثير عن قرب مزعوم للرئيس الثائر من شعبه، وعن اهتمام خاص بالريف لدي ساكن القصر، وعن رئيس غير البلد أو هكذا يريد، وعن عسكري يحاول فرض منطق آخر في تسيير الأمور.
لاتحتاج بنت هماش للتعبير عن مطالبها، أوجه المتظاهرين معها تحكي حجم البراءة والجحيم الذي يعيشونه، لكنها نسيت أو هكذا تقول الحكاية أنها من شعب آخر، ليس من الممكن أو المعقول أو المستساغ أن يقبل حكام البلد بمساواته مع أبناء النبلاء الممسكين بزمام الأمور، والمستفيدين حكرا من خيراته.
ستتجرع مع أخواتها زمهرير الشتاء، وستكتوي بألسنة اللهب في الصيف،وقسوة الظروف المعيشية، وستشرب وهي طائعة مياه "ترمسه" المالحة، وستأكل العصيد والثريد دون لحم أو خضار ، وستدفع من صحتها وصحة أبنائها ثمن الحماقة، حينما صدقوا ذات يوم أن في البلاد رئيس يهتم بحال الفقراء، يحس بآلام المهمشين، يتطلع إلي تغيير واقع الريف، سيدفنون آباهم في تراب "ترمسه" غير النقية، بفعل أمراض القلب المنتشرة، والفشل الكلوي، والضغط المستمر، وسيعودون إلي قراهم السابقة ليتدارسوا خبايا تجربة كانوا هم فئران تجاربها.
ابقارهم السمينة ستنفد، جمالهم الطائعة ستتوحش، شياهم ستنتهي علي يد الجزار القادم من كوبني، خيامهم الجميلة ستحرقها أشعة الشمس، رقصاتهم الشعبية سيتمتع بها الوزير والمدير، أغانيهم الممجدة للرئيس سيتداولها الإعلام، لكنهم في النهاية لن يتحولوا أكثر من حكاية جميلة في تاريخ بلد يعرف ساسته كيف يبيعون الأحلام الوردية للمغفلين أو البسطاء الطيبين.
لايبكي "سالم" ولكنها دموع الواقع ترسم آثارها علي خديه، كيف لا؟ وهو العائد للتو من "ترمسه" ليشارك ذويه ورفاقه تطلعهم إلي تغيير واقع فرضته عليهم الدولة بكل كبريائها، وتركتهم لسياط الدهر الكالح، تلسع ظهورهم كلما أحسوا بقرب الخلاص، وتسلمهم لحاكم ظالم، كلما غنوا ليلا فرحا برحيل آخر.
لكنها في النهاية رحلة العمر بالنسبة له، ولرفيقه لبد الله، إنها أول مرة يرون فيها "الخريف" في عز الصيف، لقد شاهدوا – وهم يقسمون غير نيام- المياه المتدفقة، والأشجار المخضرة، و"لقراير خظر" بين القصر الرئاسي والبنك المركزي، حيث تصنع الأوقية، وتدار اغلب منافذ السيولة بموريتانيا.
ستمضي قافلة المحرومين بعض الوقت بين البنك والقصر، سيشربون الشاي القادم من جمهورية مالي عبر سوق "مدبوكو"، ويأكلون الفستق القادم من مالي عبر سوق "مدبوقو" الأسبوعي، ويتبادلون أحاديث الانتجاع، ومستقبل التجمع الذي حشروا فيه، قبل أن يختفي الوالي محملا بتبعات فعله، ويغير الوزير دون أن يغير جلده، ويكتفي الحاكم الجديد بتقرير "حي" من بعض معاونيه، ويتفرج منتخبو الولاية عليهم وهم يرسمون لوحة جميلة للشرق الذي ينتمون إليه ، عنوانها " استمرار الحرمان في عهد العسكر".