شكل إعلان رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم سيدى محمد ولد محم الاستقالة من رئاسة الحزب، بعد خمس سنوات من توليه مقاليد أبرز حزب داخل الساحة المحلية، لحظة تحول بالغة الأهمية فى مسار الحزب والسلطة والرجل الذى أدار العملية السياسية داخل الأغلبية بشكل عام، والحزب الحاكم بشكل خاص، خلال السنوات الأخيرة، من موقع القائد لأبرز تشكلة سياسية، والشريك فى التصور، والفاعل الأبرز فى مجال التنفيذ،رغم حقل من الألغام ساهمت فيه ظروف التحول القاسية داخل معسكر السلطة، والصدام المستمر مع أبرز الأحزاب السياسية المعارضة للرئيس وحزبه.
تولى وزير الإعلام السابق سيدى محمد ولد محم قيادة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم فى مؤتمر استثنائى هو الثالث منذ مغادرة الرئيس المؤسس للحزب محمد ولد عبد العزيز قمرة القيادة بعد فوزه فى انتخابات يوليو 2009، ليكون بذلك رابع رئيس فى تاريخه، وثالث وزير يتولى تسييره بعد وزير الدفاع محمد محمود ولد محمد الأمين ووزير التجهيز اسلكو ولد أحمد أزدبيه.
كانت الأجواء الداخلية جد مشحونة بفعل نتائج انتخابات 2013 وماعاشته الساحة المحلية من انشقاقات بلغت أوجها فى الخروج الجماعى لعدة أحزاب من رحم الحزب الحكم ( حزب الحراك/ حزب الوحدة والتنمية/..)، مع حضور قوى للمعارضة الإسلامية فى المجالس المحلية والبرلمان، بعدما تمكن حزب "تواصل" من حصد 18 مجلس بلدى، و16 نائب فى الجمعية الوطنية، وخرج الحزب الحاكم من دوائر كانت محسوبة تقليديا عليه كالنعمة ( مسقط رأس الوزير الأول الأسبق مولاي ولد محمد لغظف) و"جكنى" ( مسقط رأس الوزير الأول السابق يحي ولد حدمين) وبلدية أظهر (مسقط رأس رئيس الحزب السابق اسلكو ولد أحمد أزدبيه)، والطينطان مسقط رأس أغلب الجينرالات المتخمين بالثروة والسلطة، مع حضور فى دوائر نوعية كمقاطعة كرو، والعاصمة نواكشوط، وروصو، وكيهيدى.
حاول ولد محم – كما يقول أنصاره- استعادة زمام المبادرة، عبر تفعيل الحزب واستغلاله كواجهة للسلطة دون إجراء أي تغيير فى المكاتب التى تسلمها من سلفه " اسلكو ولد أحمد أزدبيه"، وهو ما ولد حالة من عدم الانسجام بين رموز الحزب الموالين لخصومه داخل الأغلبية، ممن كانوا يتولون مجمل مقاعد المكتب التنفيذى والمجلس الوطنى، وبين وافدين جدد ، جلهم من الشباب، وبعض رموز المعارضة الموريتانية، والمنتمين لأحزاب الأغلبية، بعد تقويض أحزابها لصالح حزب السلطة أو حزب الرئيس على أصح تقدير.
لكن الصراع داخل الحزب ظل فى حدود المحتمل، بينما كانت الوزارة الأولى ( رأس الجهاز التنفيذى) والمجالس التشريعية ( البرلمان والشيوخ) يعدون لمعركة تحييد بالغة الصعوبة، تزعمها الوزير الأول السابق يحي ولد حدمين، وسانده فيها رئيس مجلس الشيوخ المنحل محسن ولد الحاج، وأنحاز فيها رئيس الجمعية الوطنية السابق محمد ولد أبيليل للوزير الأول وحلفه، ولم يكن موقف ديوان الرئيس بأقل خطورة، لقد كان مدير الديوان "أحمد ولد باهية" وفيا لزميله المغادر قمرة القيادة "اسلكو ولد أحمد أزدبيه" مع صراع محلى لم تستطع السلطة احتواء تداعياته، فولد باهية وبعض رجال الأعمال لم يبتلعوا مرارة تولى النائب الذى عارضوه فى أطار مقاليد أبرز حزب فى البلد، ولم يتوقعوا أن تكون نهاية مشوار الرئيس الذى ساندوه وخدموه لصالح غريم محلى يرقى لدرجة الخصم !.
غير أن المحامى القادم من رحم السلطة هو الآخر، لم يرفع شارة الاستسلام، وصارع مجمل مناوئيه، مستفيدا من ملكة خطاب لم يمتلكها غيره فى معسكر الرئيس، ونادرة فى معسكر خصومه، وثقافة سياسية راكمها منذ الجامعة ، وعلاقات وازنة مع بعض المقربين من الرئيس. لقد أختار الرجل حلفاء اليوم بدقة بالغة، بعدما أختار خصومه اللحظة المناسبة للمواجهة والعمل من أجل تحييده أو تدميره.
يعتقد رئيس مجلس الشيوخ السابق محسن ولد الحاج ورفاقه أن رئيس الحزب الحاكم سيدى محمد ولد محم هو مهندس عملية الغاء المجلس، ويتهمونه بتحريض الرئيس والدفع به نحو أزمة داخل معسكر الأغلبية بغية تحييد بعض خصومه، ويرى أنصار الوزير الأول السابق مولاي ولد محمد لغظف أن ولد محم وبعض المقربين منه كانوا خلف مغادرته للكرسى، وتوطيد دعائم أبرز منافسيه الوزير الأول السابق يحي ولد حدمين ، قبل أن ينقلب الأخير على كل من احتضنوه عشية توليه مقاليد الوزارة الأولى.
واجه ولد محم أول محاولة للعزل من منصبه أو تحييده عشية الاستفتاء على الدستور، لكن اللجنة الوزارية التى أدارت العملية، لم تنجح فى عزل الحزب أو تحييده، وأستعاد زمام المبادرة من جديد، بحكم توليه مسؤولية الإعلام والترويج لخطاب الرئيس، والعمل من أجل ترسيخ حججه فى مواجهة الرفض المتصاعد لبعض مقترحاته بشأن العلم والنشيد وإلغاء مجلس الشيوخ، وتأسيس مجالس جهوية لإستعاب النخب المحلية الراغبة فى الحضور والتمثيل.
تعرض سيدى محمد ولد محم والحزب الحاكم لحصار إعلامى رسمى غير مسبوق فى تاريخ العلاقة بين الأحزاب الحاكمة والمنظومة الإعلامية المحسوبة على السلطة، وفاقم الخلاف مع رموز الحكومة من أزمة الحصار المفروض عليه. وكانت إدارة زوجته للتلفزيون الرسمى نقطة ضعفه، فالحساسية لمفرطة لدى المعارضة من استغلال الأحزاب الحاكمة للإعلام، صاحبتها حساسية مفرطة فى الأغلبية من امكانية استغلال التلفزيون الرسمى لصالح الحزب ورئيسه، وكان ظهوره على شاشة التلفزيون الرسمى بعد رحيلها عن المنصة حديث الناس، وكأنه فتح فى حرية الإعلام بحكم التعامل الذى حمل فى طياته أكثر من استهداف للرجل والعاملين معه. بيد أن رجل الحزب بلا منازع، وواجهته الإعلامية خلال المرحلة الماضية الوزير الكورى ولد عبد المولى، كان من أجمل محاسن الصدف، وأقرب الناس إلى الرجل خلال مسيرة الأشواك المضطربة، لقد تمكن الرجل القادم من دهاليز وزارة الإعلام وقبلها القصر، من فتح أبواب كانت مغلقة أمام الحزب ورئيسه، وكان أيقونة المرحلة بامتياز.
لقد تحولت مجمل وسائل الإعلام المستقلة مرئية ومسموعة ومواقع الكترونية إلى جانبه، وحضرت أنشطة الحزب فيها بشكل غير مسبوق، ورفاقته فى حله وترحاله، وكانت حملات الأغلبية وأنشطة الرئيس حاضرة بقوة لديها، بحكم إدارة الرجل للملف، زاده الأول حسن الخلق والبساطة وسهولة التواصل مع الإعلاميين والوقوف إلى جانب البعض فى قضاياه الشخصية والتصرف كوزير إعلام مفوض، رغم أنه لم يسلم هو الآخر من حصار المناهضين لرئيس الحزب طيلة مشواره،
تعرض الحزب لحملة إعلامية وسياسية شرسة، وكانت مجمل الأطراف تدفع باتجاه مراجعة الواقع القائم، وعيون المتصارعين على من يتولى إدارة ملف الانتخابات التشريعية والبلدية والجهوية، والتحكم فى مسار الأحداث فى لحظة بالغة الدقة والتأثير.
لكن المقترح الذى دفع به الرئيس لم يقنع كل خصومه، والحماس الذى أبداه البعض عشية تشكيل اللجنة المكلفة بمراجعة الحزب وتطويره تم امتصاصه، وانتهت عملية المراجعة بتحالف عريض، تمكن فيه ولد محم ورفاقه من بسط سيطرة مطلقة على الحزب وأقسامه وفروعه، بعدما أبرم تحالفا غير معلن بين عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية خلال مرحلة التدافع، وكان إلى جانب ولد محم كلا من : صديق الرئيس الشيخ ولد بايه من الشمال، ومحمد ولد أشريف من العاصمة نواكشوط، وأنصار الفريق محمد ولد مكتب من لبراكنه، وأنصار الفريق مسغارو ولد سيدى فى الحوض الغربى، ورجل الأعمال سيى محمد ولد سييدى فى الطينطان، والخليل ولد الطيب ورفاقه فى كرو، ومحمد محمود ولد حننا فى باسكنو، وسيدنا عالى ولد محمد خونه فى أمرج، وسيدى ولد جاجوه فى ولاته، وتحالف "أهل خو" فى النعمة، وكمب با فى كيهيدى، وبمب ولد درمان وأنصاره فى روصو، ويرب ولد أسغير فى تكانت، ومحمد ولد عابدين فى أكجوجت وعالى ولد الدولة فى إينشيرى، ومحمد يحي ولد الخرشى فى نواكشوط، والفخامة وأنصاره فى "بوتلميت" و محمد ولد أحمدوا وحلفه فى أركيز، ولمرابط ولد الطنجى فى الشامى،وختار ولد الشيخ أحمد وأنصاره فى الطينطان، والكورى ولد عبد المولى و محمد عبد الرحمن ولد الصبار فى تامشكط، وكابه ولد أعليوه وأنصاره فى كنكوصه، ومحمد بوي ولد أشريف فى تيشيت، ومجمل رموز العملية السياسية فى باركيول، وفاطمة بنت عبد المالك فى العاصمة نواكشوط، لقد كان أنصار الرجل وحلفائه داخل الحزب الحاكم بحجم معارضيه وخطط مناوئيه.
حاول ولد محم احتواء الثلاثى الصاعد داخل معسكر الأغلبية والحكومة ( المختار أجاي/ محمد ولد عبد الفتاح/ آمال بنت مولود) لكنه لم ينجح فى ذلك، وقد أبقى على شعرة معاوية مع الجميع، فلاهم انضموا لخصومه وهم كثر، ولاهم ساندوه أو تحالفوا معه ، رغم حضورهم الطاغى المشهد خلال لجنة الحزب والتحضير للانتخابات البلدية والنيابية والجهوية خلال شهر سبتمبر.
تمكن سيدى محمد ولد محم وأنصاره من تسيير مرحلة التنصيب والتعايش مع خصومهم داخل الحزب بتوجيه من الرئيس وضغط فى بعض المراحل، وتفاهم وشراكة فى مراحل أخرى وهي الأقل، وكان لهم الدور الأبرز فى رسم معالم النخبة المرشحة للبرلمان والمجالس البلدية والجهوية، وكانت الحصيلة التى أفرزتها نتائج الانتخابات الأخيرة رسالة لصالح الرجل رغم انتقاد خصومه، لقد تمكن الحزب الحاكم من حسم كل المجالس الجهوية (13/13) و الحصول على 2210 مستشارين فى المجالس البلدية من أصل 3831 مستشار، و168 عمدة من أصل 219، و169 مستشار جهوى من أصل 285، 103 من أصل 157 نائب هم عدد نواب الجمعية الوطنية.
وقبل استقالة ولد محم من الحزب و مغادرته للمنصب الذى أداره لخمس سنين ، قرر ولد عبد العزيز تكليفه بملف الثقافة والإعلام فى حكومة الوزير الأول محمد سالم ولد البشير، لكن ظلت مغادرته مرتبطة بانعقاد المؤتمر، رغم أن الجميع مجمع على استحالة انتخاب هيئاته فى الوقت الراهن، بفعل المخاوف القائمة من أي خلاف قد يفسد خطط الرئيس ومعاونيه قبل استحقاق مهم.
ومع انعقاد المؤتمر العام للحزب ترك ولد محم مقعده بعد خمس سنين من توليه زمام الأمور، وأختار المناديب خليفته ( 24 شخصية لإدارة المرحلة)، وعاد الرجل إلى بيته المؤجر فى ضواحى العاصمة، مستقبلا التعازى فى رحيل والده، ومنتظرا ما ستؤول إليه الأمور فى بلد يمر بمرحلة انتقالية بالغة الدقة والخطورة ولما تكتمل ملامحها بعد، رغم الخطوات المتسارعة فى معسكر الرئيس ومعاونيه.
سيد أحمد ولد باب / مدير موقع زهرة شنقيط