كل يوم في الاجتماعات التي نجريها عبر الإنترنت من البيوت يناقش الفريق الذي أعمل فيه ضمن شبكة الجزيرة سؤالا واحدا؛ لما ذا يخوفنا الرؤساء من كورونا؟
ينجر عن هذا السؤال استعراض أرقام الوفيات والإصابات، والشفاءات، تتلوها الأرقام الاقتصادية من خسائر البرص، وشركات الطيران، فالركود الذي سيصيب اقتصاد العالم، فالعواقب السياسية للوباء التي ستسقط حكومات ورؤساء، بات من المحتمل أن من بينهم الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وسيهتز النظام الإيراني.. ويكاد الاجتماع ينتهي دون أن تنتهي أسئلتنا.
خلال اليومين الأخيرين بدأ صوت المشككين في خطورة الوباء (وكنت منهم) يخفت لصالح تفهم دوافع المتخوفين من استفحاله.
إذا تحققت التوقعات المتشائمة، والتي يمد بعضها عمر الفيروس إلى أكثر من سنة، ويشير إلى إمكانية تناسل سلالات منه، ما يعني اللهاث خلف لقاح، أو علاج لمدة قد تطول، إذا اعتبرنا أن أي لقاح أو علاج لا يمكن أن ينتج بكميات تجارية قبل أشهر (6-10) من انتشار جيل الفيروس والتعرف عليه. إذا تحققت تلك التوقعات فإن النتائج ستكون كارثة بكل المقاييس قد تختفي بسببها دول، وتسقط أنظمة وتنشأ حروب، وتتقطع سبل.
بين الطمأنة والتخويف
لحد الساعة فإن تعامل السلطات الموريتانية وإجراءاتها الوقائية تبدو فعالة، وسريعة، والأهم أنها تتناغم مع مخاوف الرأي العام من غير عقد، ولا نرجسية ولا تكبر. وهو ما منح إجراءاتها قبولا واسعا عكسته وسائل التواصل الاجتماعي، وسيترك أثره على علاقة الحكومة بالرأي العام بعد انقشاع غمة كورونا.
إن التدرج الذي أخذته الإجراءات الوقائية، من إعلان الاستعداد والرقابة، إلى الفحص، والحجر الجزئي، ثم الإعلان عن الحالة المسجلة، وإعطاء تفاصيل عنها، ثم الإغلاق الجزئي للمنافذ الجوية والبرية.... كلها خلقت نسقا متصاعدا تجنب الصدمة، ولكنه أوحى إلى المنتبهين بأن الأمر جد.
حمل تصريح الرئيس رسائل في اعتقادي أن التركيز عليها يمكن أن يفسر موقف السلطة الموريتانية، ويعطي فكرة عن التحدي الوجودي الذي يواجهه البلد، والواقع أن رسائل الرئيس سبقت تصريحه، ولكن الإعلام المحلي لم يعطها حقها:
1. حين ألغت الرئاسة اجتماع الحكومة الأسبوعي، واستبدلته باجتماعات اللجان الحكومية المعنية بالداء فقد قالت إنها دخلت حالة طوارئ بشكل فعلي، ولم تعلنها حفاظا على السكينة.
2. توزيع الحكومة إلى لجان مختصة، يعني عمليا تفريغها لمواجهة الكارثة المحدقة بالبلاد في حال حدث أدنى تهاون بشأن هذا الداء العضال.
3. استخدم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أسلوب تخويف هادئ، حين قال إن الحقيقة أن الأوضاع ما زالت تحت السيطرة، ولكنه استدرك بسرعة ليقول إن تلك السيطرة قد لا تستمر إذا لم يتحمل المواطن مسؤولية تجاه إجراءات السلطات، ويطبقها بصرامة.
4. قال الرئيس إن الدولة الموريتانية لا تملك غير الوقاية، واستطرد ليقول إن الوباء أربك دولا أكثر إمكانيات وأقوى أنظمة صحية، وأنضج "تجارب في مجال الأوبئة والكوارث، ورغم جهودها فقليل من هذه الدول تخطى المراحل الصعبة".
5. في هذا تخل عن منطق الدعاية السمجة؛ "نحن أحسن حالا من الدول المجاورة" ولكن الواقع أن تعامل موريتانيا بإمكاناتها المتواضعة مقارنة مع جاراتها، جعلها أحسن حالا منهن، رغم أنه لا مجال للمقارنة بين إمكانات بلدنا الصحية، والسنغال أو المملكة المغربية، أو الجزائر.
6. بعد عرض كل هذه التحذيرات عاد الرئيس ليوجه نداء بضرورة الالتزام بالتوجيهات والتعليمات، وكأن العرض السابق لم يكف، أو لن يكون له وقع النداء الخاص الموجه من أعلى سلطة في البلد.
7. التزم الرئيس هدوءه في التصريح، ولم يضع بهارات استعراضية، مثل استقدام الطاقم المختص، أو حشر أعضاء الحكومة، مما قد يشوش على الصورة التي أريد لها أن تكون محدودة الإطار واضحة العبارة محددة الهدف.
8. حتى الممر في الخلفية يشير إلى نوع من الصرامة، والإطار الضيق للصورة يحشر المتلقي في زاوية تفرض عليه التركيز، والإيحاء بأن هناك طريقا واحدا ليس لنا إلا أن نسلكه إن أردنا أن يبقى لنا عيش بعد وباء كورونا. ليس معنى هذا أنه مقصود أو مخطط له. بل هو قراءة في الصورة لا غير.
9. بعد التصريح دخلت أخبار إغلاق المطاعم والمقاهي حيز التداول، تلتها بسرعة أخبار حظر التجوال، لتقول للمواطن بنفس منطق الصرامة و"الحدة الناعمة" إننا ندخل حربا بشكل متدرج.
10. إن دخول الحروب التقليدية أسهل من الخروج منها، ولكن دخولنا حرب كورونا يبدو مختلفا تماما، فهو أصعب من الخروج منها بكثير؛ فالجنود في هذه الحرب هم المواطنون، وإدخالهم جو الحرب دون إخافتهم صعب، وإخافتهم تعني احتمال خسارة الحرب.
11. إن الدخول إلى هذه الحرب يتطلب قوة إقناع خارقة، فالسلطة اليوم مطالبة بإقناع مواطن بأنه في خطر، دون أن تكون قادرة على إعطائه الدليل على ذلك، وتاريخ الثقة بينهما لا يساعدها على ذلك.
12. يجب أن تقنعنا السلطة أولا أنها سلطة مختلفة، وهذا ما حاولته منذ البداية، ولكن يبدو أن تراكم عدم الثقة، انضاف إلى حالة الشك العام الذي ينتاب العالم، وإلى ضعف الثقافة الصحية، وهو ما يتطلب جهدا مضاعفا يجسد الخطر أمام الناس بدل الإخبار عنه.
13. لا يكون ذلك بالضخ المتراكم غير المحترف للتصريحات، وتكرار نفس المعلومة بذات الطريقة، وإنما بعمل محترف يحاصر الإنسان من مختلف حواسه، ومداخله.
محمد عبد الله ولد أحبيب / كاتب صحفى