الدكتور محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية المشارك بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق، وتاريخ الأديان بكلية الدراسات الإسلامية في مؤسسة قطر بالدوحة، والكاتب الصحفي بموقع الجزيرة نت، حيث نشر مئات المقالات التحليلية، جلها بالعربية، وبعضها بالإنجليزية، ويشارك في العديد من المؤتمرات، ومهتم بالفقه السياسي، ومقارنة الأديان، والمسألة الطائفية، وقضية الهوية، والعلاقات العربية - الأميركية، وكانت رسالة الدكتوراه الخاصة به "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية - الشيعية" (رسالة دكتوراه في تاريخ الأديان جامعة تكساس).
كشف الشنقيطي في حواره الخاص مع "شؤون خليجية"، عن متى تتحول الثورات السلمية إلى ثورات عسكرية مسلحة، مؤكدًا أنه إذا أوغل المستبد في سفك الدماء وانتهاك الحرمات انفجر المجتمع تلقائيًا، كما حدد أربعة أشياء هي أعداء الغرب في العالم العربي والإسلامي، وهي: الإسلام، والحرية، والسلاح، واستقلال القرار، مؤكدًا أن الأمة العربية تعيش الآن مرحلة انتقالية بين زمن انقضى هو زمن الاستبداد والاستفراد، وزمن لم يولد بعد هو زمن الحرية، وأن القطار انطلق من المحطة ولن يعود إليها مرة أخرى، وأوضح كم الهلع الذي أصاب دول الخليج من ثورات الربيع العربي، رغم أنها لم تهددها، مشددًا على أن محاولات العودة إلى الحكم العسكري ستكون فاشلة، لأن وعي الشعوب العربية تجاوز تلك المرحلة.
وإلى نص الحوار .......
** كيف تقرأ الواقع السياسي العربي في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي وحجم التآمر عليها؟
* نحن في مرحلة انتقالية بين زمن انقضى هو زمن الاستبداد والاستفراد، وزمن لم يولد بعد هو زمن الحرية في الداخل والاستقلال عن الخارج، ومراحل الانتقال في حياة الأمم مراحل مؤلمة وعنيفة في الغالب، لكن القطار انطلق من المحطة وهو ليس بعائد إليها.
** موقف المال الخليجي كان حاسمًا في وأد ثورات الربيع العربي ومساندة الانقلابات، مدعومًا بتأييد دولي من قوى عالمية طالما تغنت بحقوق الإنسان والحريات، ما سر التآمر على الربيع العربي؟
* أعداء الغرب في العالم العربي والإسلامي– من وجهة نظر النخبة الغربية- أربعة: الإسلام، والحرية، والسلاح، واستقلال القرار. وأخطر هذه الأعداء هو الحرية، لأنها هي التي تمكِّن قيم الإسلام في الشأن العام، وتحقق استقلال القرار عن الخارج، وتمهد لبناء قوة تحرر من التبعية. فالغرب لن يسمح بحرية شعوبنا إلا راغمًا، وبعد أن يدرك أن استعباد شعوبنا له ثمنه من دماء الغربيين وأموالهم ومصالحهم الاقتصادية.
أما دول الخليج فقد أصيب بعضها بما أصيب به ملوك أوروبا إبان الثورة الفرنسية، من هلع ومبالغة في الخوف من ثورات الربيع العربي، وكان للتحريض الصهيوني والتواطؤ الغربي دور في الموقف السلبي من ثورات الربيع لدى هذه الملكيات المخترقَة استراتيجيًا. علمًا بأن الربيع العربي لم يشكل خطرًا على أي من الملكيات العربية، وإنما كان تنبيهًا لها بالمسارعة إلى الإصلاح السياسي، قبل أن تصل المفارقة بينها وبين شعوبها إلى ما وصلت إليه في "الجمهوريات" العسكرية العربية. وقد سن ملك المغرب سنة حسنة في هذا المسار تستطيع الملكيات الأخرى الاقتباس منها، بدلًا من الهلع غير المبرر .
** في العدوان علي غزة ظهر بوضوح التحالف الاستراتيجي بين دول خليجية وإسرائيل وكُشف المسكوت عنه، إلى أي مدى يستمر هذا التحالف؟
* المجاهرة بالتحالف مع إسرائيل حالة عابرة في لحظة انتشاءٍ بالإثم، وأمْنٍ من نقمة الشعوب، لكنها لن تدوم طويلًا، وقد بدأت بعض الدول تبتعد عن هذا المسار الخطر.
** من ثورات سلمية في تونس ومصر.. إلي عسكرة الثورة في ليبيا وسوريا.. إلى الانقضاض على هذه الثورات.. هل ترى المستقبل سيكون للثورات الدموية؟ وهل انتهى نهج السلمية؟
* قرار عسكرة الثورات هو قرار الحاكم الظالم، لا قرار الشعب المظلوم، فإذا أوغل المستبد في سفك الدماء وانتهاك الحرمات انفجر المجتمع تلقائيًا. وعمومًا فإن الثورات السلمية ممكنة مع المستبدين الفاسدين، أما حين يتحول هؤلاء إلى قتلة سفاحين، فلا يمكن التعاطي معهم إلا بمنطق الثورة العسكرية.
ويبقى لكل بلد سياقه ومصلحة الثورة فيه، ومستوى تحقق شروط المواجهة فيه، وأهم هذه الشروط هو وجود حاضنة شعبية للثورة العسكرية، ووجود مدد مالي وتسليحي يضمن الاستمرار، وقد تحقق هذان الشرطان في بعض الدول مثل ليبيا وسوريا، ولم يتحققا بعدُ في دول أخرى مثل مصر.
** صناعة السيسي في مصر، وحفتر في ليبيا، ومحاولة تصعيد أحمد صالح في اليمن، هل هو عودة إلى زمن العسكرة كما حدث في الستينيات؟
* هي محاولة للعودة إلى الحكم العسكري، لكنها محاولة خائبة، فقد تجاوز وعي الشعوب تلك المرحلة، ولا مستقبل لأية جهود لإعادة الحكم العسكري، ولن يكون فيه خير للدول العربية، فما حكم العسكر بلدًا عربيًا إلا أجدب سياسيًا واقتصاديًا وحتى ثقافيا. لكن بعض القوى الدولية الطامعة حريصة على الاستمرار في هذا المسار، لتعميق الحرب الأهلية في المجتمعات العربية.
** الإسلام السياسي من الاضطهاد إلى الصعود للحكم، إلى السجون والمعتقلات والمطاردات والتجريم والحظر .. كيف تقرأ مستقبل الإسلام السياسي، وما الأخطاء التي وقع فيها؟
* الحركات الإسلامية السياسية كانت جزءًا مهمًا من نظام المناعة في الجسد العربي، وقد ساعدت كثيرًا على مقاومة المجتمعات للاستبداد، ثم تحولت إلى أهم رافعة للثورات العربية حينما اندلعت مطلع هذا العقد. وستظل في طليعة القوى الحية رغم التآمر الداخلي والخارجي عليها ومحاولة سحقها، لأنها تعبير عميق عن وجدان المجتمعات العربية.
أما من حيث الخبرة العملية فلا يزال ينقصها الكثير، لكنها ليست أسوأ في هذا المضمار من القوى السياسية الأخرى، التي حرمها المستبدون من تعلم تسيير الدولة وصناعة القرار.
وقد أخطأوا بتعجلهم الحكم في المرحلة الانتقالية، فالمراحل الانتقالية لابد أن تكون مرحلة إجماع والكل يشارك، لكن همة الإسلاميين أعلى وتعلمهم أسرع.
** التكفير.. القاعدة.. أبو سياف.. طالبان.. بوكو حرام.. وصولًا إلى داعش، هل الانسداد السياسي والكفر بالديمقراطية أدى إلى ظهور هذه الجماعات؟ وهل سنرى ما هو أشد عنفًا؟
*لا بديل عن الإسلام السياسي سوى الإسلام الجهادي. وكلاهما تعبير عن سعي مجتمعاتنا الحديث إلى تحقيق إنسانيتها دون وصاية داخلية أو خارجية. فالشعوب تلجأ إلى الإسلام السياسي حينما تتاح لها فرص التغيير السلمي، وتلجأ إلى الإسلام الجهادي حينما تنسد في وجهها أبواب التغيير السلمي. ومهما ترتكبْ الجماعات الجهادية من أخطاء وخطايا، فهي تعبير عميق عن رَدة فعل مجتمع سئم الذل والهوان، وقرر إمساك مصيره بيديه.
** تقييمك لـ"عاصفة الحزم".. وهل تأخرت.. وهل ستؤتي ثمارها وتقطع يد إيران "العابثة بمصائر الشعوب "– على حد تعبيرك– أم أنها استنزاف لمقدرات الجيوش العربية أمام الغول الإيراني؟
* لست أتفق معكم في أن السعودية "غير مؤهلة لخوض الحروب"، فالسعودية دولة قوية جدًا، وهي الدولة المركزية في الجزيرة العربية، ولديها إمكانات عسكرية ومالية ضخمة، ومنافذ بحرية متعددة، ومكانة عريقة في العالم الإسلامي. وكل ما كان ينقصها هو النظر الاستراتيجي السليم، الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية كانت تسير في مسار خطير ومسدود، ولن تستطيع إغفال مشاعر شعوبها التي تغلي .
سياسة الملك عبد الله كانت سياسة إستراتيجية هادمة للذات وخاطئة (وإيران تحاوطهم من كل مكان، وهم منشغلون بمحاربة الإخوان والحركات السنية المعتدلة)، وهو ما بدأ يتعدل ويتحسن في ظل الفريق الحاكم الجديد، وعسى أن يتعمق هذا التوجه الإيجابي في سياساتها.
أما عملية عاصفة الحزم فقد جاءت خطوة ضرورية لوقف إيران عند حدها، وإرجاعها إلى حدودها، ولا تعايش بين العرب وإيران أو بين السنة والشيعة اليوم، إلا بعد صد الصائل الإيراني، وتحجيم امتداداته العربية إلى أحجامها الطبيعية. علما بأني شخصيًا من أشد الناس مقتًا للطائفية والطائفيين، وأنظر إلى الأمر من زاوية الظالم والمظلوم، والمحق والمبطل، لا من زاوية السني والشيعي. وإيران هي الظالمة الصائلة، الوالغة في دماء الشعوب العربية، الممزقة للُحمتها، الهادمة لاجتماعها السياسي.
** انتشر هاشتاق قوى عبر تويتر وشاركتم فيه عن (#عاصفة _الحزم في_ سوريا _الحزم)، هل تتوقع أن تكمل عاصفة الحزم مسارها بسوريا؟ أم أن الأمر مختلف في اليمن لأنه شكل خطرًا حقيقيًا مباشرًا على السعودية؟
* أتمنى أن تتوسع عاصفة الحزم إلى سوريا، التي عانى شعبها ظلمًا فاحشًا على أيدي إيران ووكلائها المحليين، وأنا متفائل أن شيئًا من ذلك سيحدث بالتنسيق مع تركيا، وإن جاء بصيغة مخففة ومختلفة إجرائيًا عما يحدث في اليمن.
فسوريا في ظل الأسد لا تقل خطرًا على السعودية من اليمن، وهي نقطة التقاء لقوى عديدة لا ترتاح لها السعودية، وأرى أن تزويد الثوار السوريين بالسلاح النوعي– وأوله مضاد الطيران الموجَّه حراريًا- يكفي على المدى القريب لقلب الموازين في سوريا لصالح الثوار، دون تدخل مباشر من الدول الأخرى.
وهنا تحتاج السعودية وتركيا وقطر أن تكسر الفيتو الأميركي المانع من تزويد الثوار السوريين بالسلاح النوعي، وهو أسوأ من الفيتو السياسي الروسي في مجلس الأمن. لقد أجرمتْ أميركا في حق الشعب السوري بأكثر مما أجرمت في حقه روسيا، حينما حرمته من السلاح النوعي، فحولت ثورته إلى مذبحة مفتوحة.
ولا يجوز لدول عربية أو إسلامية مناصرة للشعب السوري أن تستمر في قبول هذا الإجرام مهما تكن علاقتها بأميركا.
** الحديث عن تحالف سني جديد بالمنطقة بقيادة تركيا والسعودية وقطر في مواجهة الخطر الشيعي الإيراني.. إلى أي مدى ترى إمكانية تشكيله وتحققه؟
* أعتقد أن دول الخليج تعلمت الكثير منذ الانقلاب على الرئيس المنتخب د. محمد مرسي، وأن السعودية خصوصًا تدرك اليوم الخطيئة الأخلاقية التي ارتكبتها، والانكشاف الاستراتيجي الذي تسببت فيه لنفسها بمحاربة الإخوان المسلمين، وهم أهم قوة سياسية سنية يمكن أن تتخذها السعودية عمقًا إستراتيجيًا لها، في وجه العنجهية الإيرانية والتلاعب الغربي. وبعض المعلومات تشير إلى أن الملك سلمان لم يكن راضيًا أصلًا عن هذا التوجه الذي تبناه سلفه. لذلك يوجد ما يدعو للتفاؤل. ولا شك أن اجتماع القوى الصلبة التي تملكها كل من السعودية وتركيا مع القوة الناعمة التي تملكها قطر- إعلاميًا وماليًا ودبلوماسيًا- يشكل نواة صلبة لقوة جبارة تستطيع قلب الموازين في المنطقة.
** قلتَم إن عاصفة الحزم "تحولٌ عميق في السياسة السعودية من نهج العمى الاستراتيجي وهدم الذات إلى نهج الرشد الاستراتيجي واستعادة المكانة".. ماذا كنت تقصد بهدم الذات.. وما مظاهر العمى التي كانت موجودة؟
* سيسجل التاريخ أن دعم انقلاب السيسي على الدكتور محمد مرسي، وعلى الثورة المصرية، هو أكبر مصيبة في التاريخ السياسي لدول الخليج العربية، لأنه استنزفها ماليًا، وكشف ظهرها استراتيجيًا، ونقل إليها الاضطراب.. وذلك ما كنتُ قصدته بالعمى الاستراتيجي وهدم الذات. ولولا العنجهية الإيرانية التي تجاوزت كل الحدود، حتى قررت احتلال اليمن، واتخاذه قاعدة متقدمة لها عند خاصرة السعودية، وإكمال الطوق على السعودية بعد أن حاصرتها من الشمال الغربي في سوريا، ومن الشمال الشرقي في العراق.. لربما لم تستيقظ السعودية من هذا العمى الاستراتيجي إلا بعد فوات الأوان.
نقلا عن صحيفة شؤون خليجية