ولد الغزوانى بعد عام من حكمه : مظاهر المنجز ومكامن الخلل (..)
شكل وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى إلى سدة الحكم فى الثانى والعشرين من يونيو 2019 لحظة فارقة فى تاريخ الدولة الموريتانية المعاصرة، بحكم التداول السلمى على السلطة بين رئيس منتخب مغادر وآخر حملته صناديق الاقتراع إلى الواجهة ، دون نزاع فى الشرعية السياسية أو المشروعية الأخلاقية، مع خبرة فى دهاليز الحكم خلال مسار مهني بالغ التعقيد.
كانت الصدمة كبيرة فى معسكر المعارضة الحالمة بفرض التغيير، بحكم الحشد والتمويل غير المسبوق لمرشحيها، وانتظار اللحظة الحاسمة لإبعاد قادة الجيش عن السلطة، بعد 10 سنين من المواجهة فى الشارع والإعلام وميدان الدبلوماسية مع الممسكين بزمام الأمور منذ الإطاحة بالرئيس سيدى محمد ولد الشيخ عبد الله- عليه رحمة الله- نهاية 2008.
النتائج كانت محبطة وذات تأثير صادم فى بعض معاقل الطيف السياسى المعارض، والأمل بحضور أكبر داخل دهاليز السلطة قد تبخر لدي قوى أخري، لم يستوعب أنصارها حجم الصدمة، فنزلوا للشارع من أجل فرض رأي مغاير، لما كرسته صناديق الاقتراع، وزكته نخب البلاد الساعية إلى عهد جديد.
كانت الأسابيع الأولى أول اختبار للرجل وهو يتسلم البلد بعد عشرية من الصدام المفتوح بين السلطة ومعارضيها، ويدير دفة الحكم، وقد تعمق الشرخ الإجتماعى بين مكوناته، وتحول الخيار المعارض إلى تجذير للخلافات الفئوية والعرقية، فى بلد متعدد الأعراق والفئات، ومثقل بهموم العيش، وسؤال التعايش المشترك منذ سنوات الجمر (1989-1990) ، ناهيك عن ارتفاع معدلات الفقر بين الشباب، وارتكاس المنظومة التربوية إلى الحضيض، رغم الاستثمار فى البنية التحية ، ومحاولة الجيش الدخول على خط الأزمة داخل القطاع لانتشال النابهين عبر مراكز ومدارس باتت حديث الناس خلال السنوات الأخيرة.
نزع فتيل الألغام وتسيير المشترك
عمل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى فور وصوله للسلطة على نزع فتيل الألغام من طريقه، وسعى لتسيير المشترك بينه وبين مجمل مناوئيه فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبدد مخاوف رموز المعارضة وشبابها، بعدما هتفوا ضده فى ميادين الرفض (2011-2012)، وهم شبه متأكدين من فوزه بالسلطة حتى قبل الترشح، بحكم القلق الذى يساورهم من وصول أي ضابط لسدة الحكم فى بلاد تعود سكانها على جفاء الجيش، والغلظة فى التعاطى مع مخالفيه.
فى فاتح مارس 2019 قال الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى لمجمل الذين تابعوه عبر بث تلفزيونى مباشر من ملعب المرحوم شيخا ولد بيديا، إنه "شخص مختلف"، وإنه يترشح الآن للرئاسة من أجل تطوير البلد الذى آمن به وأحبه، وأن تعاطيه مع الجميع لن تحكمه المواقف السياسية فى الحملة الانتخابية، ولن يكون رئيسا لناخبيه فقط.. تراقص البعض عن أنغام تلك الكلمات، وشكك البعض الآخر فى مدى جدية الرئيس وعزمه، بل حاول البعض الآخر الطعن فى استقلالية قراره، والإيحاء للجمهور بأنه مجرد واجهة لنخبة عسكرية تدير البلد، وتقرر ماتريد، وأن خطابه للاستهلاك الإعلامي ليس إلا.
لم تمض غير ثلاثة أشهرـ حتى أدرك منافسه السابق الوزير الأول سيدى محمد ولد بوبكر مع من كان يتنافس بالفعل، وهو الذى تحدى الشعب فى مهرجان مشهود بروصو أن يسألوا الطرف الآخر عن مرشحه، وعمن سيصوتون له، قائلا لاندرى مع من نتنافس، ولا نعرف فى الطرف الآخر من هو المرشح ؟، بعد تصريحات إعلامية أدلى بها ولد عبد العزيز لوسائل الإعلام قال فيها إنه سيظل فى الواجهة يتابع المشاريع ويعمل من أجل تطويرها، قبل أن يتراجع ليقول بأنه صديق الرئيس المحتمل ، وهذا ما أراد الإشارة إليه!.
فى السابع والعشرين من نوفمبر 2019 كانت طائرة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى تحط بمطار أكجوجت وقد الغروب، وكانت أعمدة الغبار المتصاعدة من المكان تنذر بطي صفحة من عمر الدولة الموريتانية وفتح أخرى، لقد تم إبعاد أكبر الكتائب العسكرية عن الواجهة (الحرس الرئاسى)، وغاب صديق الرئيس لأكثر من أربعة عقود عن الاستقبال والعرض، وحضر زعماء المعارضة لأول مرة إلى جانب الرئيس المنتخب فى منصة رفع العلم، وأختار كبار القادة العسكريين والسياسيين الاصطفاف إلى جانبه فى معركة يقول أنصاره إنها فرضت عليه، لكنه عرف كيف يديرها بجدارة، وكيف يخرج منها وهو أقوى مما تصوره الجميع.
حضرت أمة وغاب شخص
لم تكن احفتالات عيد الإستقلال بأكجوجت سوى البداية لرسم معالم لوحة يريد لها الرجل أن تستمر، لقد أراد الرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ الغزوانى إرسال رسائل أعمق للجميع، وكانت منصة مهرجان المدن القديمة بشنقيط هي المنطلق، لقد حضرت الأمة وغاب شخص واحد، حتى ولو كان بحجم الصديق لأربعة عقود. ! حتى أولئك الذين لم يتمكنوا من الحضور كانت رسائل إيجابية قد تلقوها، مفادها أن البلد مفتوح على مصراعيه أمام كل الراغبين فى مشاركة الشعب فى بناء دولته الحديثة، مهما كانت تهم الماضى وملفاته المفتوحة لدى دوائر الأمن والقضاء، تلك أمة قد خلت، وهذا حكم جديد، ونمط آخر فى التسيير غير الذى اعتادوه.
أستعاد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية بسلاسة، وفكك أركانه وأعاد تموقع داعميه بشكل يجسد رؤيته الجديدة للحزب والمطلوب منه، مدعوما بسلسلة من بيانات التأييد، كانت أطرافها مخرجات الحزب الذى أسسه وقاده سلفه فى الحكم وخصمه اليوم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
لقد أجمع نواب الحزب وعمده وقادة المجالس الجهوية على تزكية مسار الرئيس الجديد، بل إن البعض تجاوز الدعم للمس من مخالفى الرئيس والساعين إلى التشويش عليه. إنها لحظة إجماع نادرة داخل حزب الاتحاد من أجل الجمهورية يقول أنصار الرجل، ولحظة مفاصلة كانت خيارات النخب فيها محدودة، فأختار الكل مستقبله، تاركا الماضى لمن يحاولون التشبث به.
أعاد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى رسم ملامح المؤسسة العسكرية، وعلى كرسيه الذى جلس عليه إبان تربصه فى وزرة الدفاع، جلس حليفه وصديقه الآخر الفريق حننا ولد سيدى، وفى مقعد الأركان العامة للجيوش أطل الفريق محمد ولد مكت، وسلم الأمن لثقته الفريق مسغارو ولد سيدى، وعلي رأس الجمارك والدرك تم تثبيت صديقيه السابقين الفريق الداه ولد المامى والفريق السلطان ولد أسواد، بينما أعاد رسم ملامح التشكلة المكلفة بتأمينه، ليقول لمتابعيه بأن رجل المؤسسة العسكرية العارف بكواليسها ، ومحل إجماع بين كبار الضباط، وليس جسما غريبا، أو شخصا يتلمس خطاه داخل حقل الألغام الذى تسلمه، يبحث عن معاونيه بين عشرات الضباط من مختلف الرتب، كما هو حال آخرين سبقوه للمنصب فارتبكوا، أو خسروا للسبب ذاته.
مكامن الخلل
لم تخل مسيرة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى من مطبات كثيرة خلال السنة الماضية، وكانت الظروف المحيطة به جد مربكة، رغم دعم رموز النظام السابق له، وتفهم الكثير من قراراته من قبل معارضيه. لقد تعثر مسار الإصلاح داخل العديد من الدوائر الإدارية بحكم ضعف بعض معاونيه، والظروف الصحية التى باغتت العالم كله، فانكشف الغطاء الصحى فى أول أزمة، رغم الضجيج الذى صاحب بداية تشكيل الحكومة، وظلت أزمة الكهرباء تراوح مكانها، وكانت "تآزر" رغم وضوح الأهداف وحجم التمويل والدعم المخصص لها دون المأمول منها بكثير، أنجز الرئيس ما تعهد به (تأسيس الإطار اللازم وتوفير الأموال له) وقعد بالمشروع عجز القائمين عليه.
حالت الأزمة الصحية دون إطلاق مشاريع كبرى فى بلد يحتاج إلى التغيير فى كل جوانب الحياة، ومال الرئيس إلى توفير المال للقادم من الأيام الصعبة، فى ظل عالم مضطرب وجائحة لاتختفى إلا لتعود، بيد أن ضعف الحكامة فى التعليم العالى، والتأخر فى تفعيل المجالس الجهوية،والعجز فى مجال التشغيل، والتراخى فى دعم الرياضة،وغياب خطط واضحة لتطوير قطاع الصيد ، وانعدام التناغم بين الجهاز السياسى والحكومة، والعجز الإعلامي، وارتباك قطاع الثقافة، وانشغال بعض الوزراء بتلميع وجهوهم قبل الرحيل عن تثمين المنجز والإقناع به ، وتعثر بعض المصارف المحلية، كلها عوامل أثرت على الحصيلة الإيجابية للرجل، ناهيك عن انشغال الرئيس وبعض معاونيه بملف رموز العشرية، وهو ملف أربك العديد من الدوائر التنفيذية، رغم أن مجاله ظل حكرا – على غير المعتاد- على السلط التشريعية والقضائية، رغم أن للسلطة التنفيذية دور كبير فى حماية التحقيق والتحكم فى مسار الأحداث خلال الأشهر الماضية.
ورغم كل تلك الهفوات، وكل ملامح التقصير البادية، إلا أن أنصار الرجل وبعض معاونيه يعتقدون أن القادم أفضل، وأن البلاد استعادت منطق الدولة والمؤسسات، وأن الحكومة – رغم شبح الجائحة – تعمل دون انتظار، وأن الديون تراجعت والعلاقات الخارجية فى تطور مستمر، والتحديات الأمنية والسياسية تم طي ملفها بالكامل، وأن مراجعة الجهاز التنفيذى واردة فى كل لحظة، وتفعيل الواجهة السياسية والإعلامية متاح وممكن،فى ظل حسم كبريات الأمور، والتفرغ لمعركة التنمية والقيام بماينفع الناس ويمكث فى الأرض.
سيد أحمد ولد باب / مدير موقع زهرة شنقيط