خرجت موريتانيا من سيطرة الاستعمار الفرنسي، بولادة قيصرية جعلتها تبرز إلى الوجود بعيوب وأزمات بنيوية مزمنة وعميقة، عانت منها باستمرار، لكنها على غرار تجربة العديد من الدول حديثة النشأة، كان باستطاعتها أن تتخلص من تلك الاختلالات والأزمات، لولا محنتي:
- عدم الاستقرار السياسي
- سوء تدبير الشأن العام.
فموريتانيا عاجلتها كارثة الجفاف الطبيعي في السبعينات وتداعيات حرب الصحراء الغربية والتي كان من نتائجها المباشرة الانقلاب العسكري عام 1978، وهي ما زالت تتلمس خطواتها الأولى لتأسيس هياكل الدولة وإقامة المقومات المعنوية والمادية الضرورية لدولة عصرية يحكمها القانون وتدار عبر مؤسسات قارة، مما جعلها تدور في حلقة مفرغة من عدم الاستقرار والتخلف.
لكن تلك المحن التي سبقت الإشارة إليها، ما كان ليكون لها نفس التأثير على مسار تطور الدولة الموريتانية، لولا إجهاض تجربة التعددية الحزبية التي نشأت في ظل السيطرة الاستعمارية، بفعل التعديلات الدستورية مع مطلع الستينات من القرن الماضي، التي كرست النظام الرئاسوي ، الذي جعل كل السلطات في يد رئيس الجمهورية، إلى جانب فرض الأحادية الحزبية، نموذج الممارسة السياسية السائدة في ذلك الوقت في أغلبية الدول الإفريقية.
وكانت التعددية الحزبية قد انطلقت في موريتانيا مع منتصف الأربعينيات من القرن العشرين في ظل السيطرة الاستعمارية، على غرار أغلبية الدول التي خضعت للاستعمار الفرنسي، ممهدة الطريق لأول انتخابات برلمانية تعرفها الأراضي الموريتانية في عام 1946، لكن هذه التجربة سيتم إيقافها مع قيام الدولة الوطنية، لتحل محلها تجربة الأحادية الحزبية، ممثلة في تجربة "حزب الشعب" في ظل الحكم المدني بقيادة الرئيس الراحل المختار ولد داداه، وهي التجربة التي ورثتها تجربة "هياكل تهذيب الجماهير" في ظل حكم النظام العسكري.
لكن المتغيرات الدولية الكبيرة، التي عرفها العالم مع نهاية الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين، كسقوط حائط برلين وانهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الإتحاد السوفيتي، جاءت بموجة جديدة من الانفتاح الديمقراطي عبر العالم، مما جعل فرنسا تفرض على الدول الافريقية الدائرة في فلكها، ضرورة الانفتاح الديمقراطي، كشرط لاستمرار التعاون معها، وهو الموقف الذي عبر عنه الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتراه في خطاب "لا بول" الشهير.
وكانت موريتانيا من بين الدول الإفريقية، المستجيبة لذلك النداء، عبر اصدار دستور 20 يوليو 1991، الذي جاء مصمما على مقاس النظام العسكري الحاكم في ذلك الوقت، الأمر أدى إلى تعثر مسار الانتقال الديمقراطي بالنتيجة، لتعود موريتانيا إلى مسلسل الانقلابات العسكرية، حيث شكل انقلاب 2005، انفراجا في مسار الانقلابات العسكرية، بإقامته لمرحلة انتقالية، فيها انفتاح ديمقراطي كبير وتشاور مع الطبقة السياسية، أفضى إلى انتخابات شفافة نسبيا، برلمانية في 2006 ورئاسية في 2007، لتكون بمثابة قوس من الممارسة الديمقراطية في الحياة السياسية الموريتانية، نالت فيها المؤسسات استقلاليتها ومارست صلاحياتها وفقا للقانون، ليتم إجهاض هذه التجربة بانقلاب 6 أغسطس 2008، لتعرف موريتانيا في ظله، عشرية من الاستبداد والفساد قل نظيرها، تمت تغطيتها بالكثير من الشعارات والحوارات الصورية والتعديلات غير الدستورية وعدم احترام القوانين والمؤسسات.
إن الفترة الممتدة من أغسطس 2008 إلى أغسطس 2019 ، تميزت بسيادة حكم الفرد وتراجع الممارسة الديموقراطية والقضاء على المؤسسات الدستورية، لكن الأخطر في تلك الممارسات، العمل على تفكيك اللحمة الاجتماعية وإثارة النعرات العنصرية والجهوية وتبديد ثروات البلاد بصورة ممنهجة.
إلا أن وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للسلطة في موريتانيا أغسطس 2019، أدى إلى ارتياح في أوساط الشعب الموريتاني، لينعكس في مناخ من التهدئة السياسية والاستماع للآخر والانحياز للمواطن الضعيف واحترام مبدأ فصل السلطات وتسوية المظالم وإعادة نسيج اللحمة الاجتماعية.
وفي هذا الجو الهادئ والمنفتح يتنزل التشاور المنتظر، واسهاما من كتلة أعضاء مجلس الشيوخ، في ذلك التشاور، فإنها تتقدم بالمطالب والمقترحات التالية:
المحور الأول : المطالب.
أولا : إلغاء التعديلات غير الدستورية لسنة 2017 .
ويأتي طلب إلغاء التعديلات غير الدستورية، التي أقدم عليها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في 2017، للأسباب التالية:
1 – أن تلك التعديلات لم تكن دستورية، حيث أنها تخالف مقتضيات الباب الحادي عشر من الدستور، الذي تنص المادة 99 منه، على : (كل مشروع مراجعة للدستور يجب أن يصوت عليه 3/2 من النواب المكونين للجمعية
الوطنية و3/2 من الشيوخ المكونين لمجلس الشيوخ لكي يتسنى عرضه على الاستفتاء)
2- أن تلك التعديلات تقضي على أهم الرموز الوطنية، العلم والنشيد الوطني، التي وحدت الشعور الوطني، وتشكل مرجعية جماعية وطنية لكل الموريتانيين.
3- أن تلك التعديلات ليست دستورية فقط ، بل أنها تكرس سابقة في عدم احترام نصوص العقد الاجتماعي، الذي هو المرجعية لكل النصوص القانونية، التي ينبغي الحرص على احترامها واستقرارها.
4- أن تلك التعديلات غير الدستورية، تم رفضها من إحدى غرف البرلمان، وكذلك من أغلبية الشعب الموريتاني، وهو ما عبرت عنه، غالبية القوى السياسية الموريتانية بما في ذلك الأغلبية المعتدلة والمنتدى الوطني للديمقراطية وتكتل القوى الديمقراطية والمنظمات النقابية وجمعيات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة وقادة الرأي.
ثانيا : ضرورة إعادة مجلس الشيوخ.
من المهم إعادة غرفة مجلس الشيوخ، لتطور الممارسة الديمقراطية في موريتانيا، ويبرز ذلك من خلال :
1- أن إلغاء غرفة مجلس الشيوخ، تم بطريقة غير دستورية، وما أسس على باطل، فهو باطل، وبالتالي فمؤسسة غرفة الشيوخ، من الناحية القانونية ما زالت قائمة.
2- أن وجود مجلس الشيوخ يخلق التوازن بين السلطات والمؤسسات الضرورية للممارسة الديمقراطية.
3- أهمية وجود مجلس الشيوخ، لتوسيع تمثيل مختلف فئات الشعب وكذلك مختلف جهات وأقاليم الجمهورية .
4- أنه ليس هناك تناقض بين وجود المجالس الجهوية ووجود مجلس الشيوخ، لاختلاف المهام والأدوار، فالمجالس الجهوية جهاز تنموي محلي ومجلس الشيوخ غرفة برلمانية على المستوى الوطني، مهمتها التشريع.
5- يتيح البرلمان ثنائي الغرفتين، إمكانية التوفيق بين الكفاءة والتوازن المؤسسي والتمثيل الجغرافي بشكل أفضل، فمن الصعب تحقيق التوازن في برلمان أحادي الغرفة، في مواجهة السلطة التنفيذية .
6- لقد بينت التجربة أن برلمان ثنائي الغرفتين، أكثر استقرارا، وأقدر على سن قوانين وتشريعات متوازنة قابلة للتطبيق.
ثالثا : ضرورة إعادة الاعتبار لأعضاء مجلس الشيوخ.
لم يكتف نظام محمد ولد عبد العزيز، بإلغاء غرقة مجلس الشيوخ بطريقة غير دستورية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك أعلاه، بل تعمد إهانتهم واتهامهم في شرفهم، وهو ما يقتضي، العمل على :
1- إعادة مجلس الشيوخ كجزء من السلطة التشريعية ومؤسسة دستورية، تم إلغاؤها بطريقة غير دستورية.
2- إعادة الاعتبار المعنوي لأعضاء مجلس الشيوخ، أمام الرأي العام الوطني، لإنصافهم بعدما تعرضوا له من طعن في شرفهم واتهامهم في ضمائرهم وأمانتهم.
3- ضرورة تكريم أعضاء مجلس الشيوخ، لشجاعتهم في التصدي لإنتهاك الدستور واسقاط التعديلات قانونيا.
المحور الثاني : المقترحات.
وللأسباب أعلاه، فإن فريق مجلس الشيوخ يقترح ما يلي :
أولا : الإصلاحات الدستورية المقترحة.
1- العمل على إجراء إصلاحات دستورية، تضمن فصل حقيقي للسلطات، لخلق توازن بينها.
2- إلغاء كل التعديلات غير الدستورية، التي تمت في ظل العشرية الماضية، وإعادة الرموز الوطنية ومجلس الشيوخ انسجاما مع ترتيبات دستور 20 يوليو1991 .
3- إعادة نظام الغرفتين للبرلمان الموريتاني ، عبر إعادة مجلس الشيوخ لممارسة دوره التشريعي والرقابي المعطل منذ 2017 .
4- تقليص عدد نواب الجمعية الوطنية ليتلاءم مع حجم السكان، واعتماد نظام اللائحة الوطنية، بدل نظام الدائرة.
ثانيا : اعتماد نظام لامركزية مناسب لموريتانيا.
لقد أقام النظام السابق المجالس الجهوية، رغم فشل تجربة البلديات، الأمر الذي يستدعي ضرورة إلغاء المجالس الجهوية، وفي المقابل العمل على إنجاح البلديات وتعزيز اللامركزية الإدارية بالتدريج، من خلال تحويل الصلاحيات و الوسائل للجهات ذات الصلة بالمواطن .
ثالثا: إصلاح اللجنة المستقلة للانتخابات.
عبر إعادة هيكلتها، والتركيز في اختيار أعضائها على الكفاء
وتقليص فترة انتدابها الى سنة فقط، تغطي مدة الانتخابات.
رابعا : إعادة هيكلة المجلس الدستوري.
ضرورة إعادة هيكلة المجلس الدستوري، مع ضرورة احترام الاختصاص والكفاءة في اختيار أعضائه (قضاة أساتذة قانون إداريين).
خامسا : ضرورة تفعيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
من الملاحظ أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي منذ تأسيسه، لم يقم باي عمل، بل ظل عبئا ماليا وسياسيا على الدولة الموريتانية، مما يقضي تفعيله .
سادسا : ضرورة إقامة نظام حكامة جيدة في موريتانيا.
تعيش موريتانيا في وضعها الراهن، مفارقة عجيبة، "بلد غني بالثروات، يعيش فيه شعب من أكثر شعوب المعمورة فقرا"، والسبب في ذلك يعود إلى محنة الفساد المستشري منذ عقود في موريتانيا، مما يحتم وضع أسس و آليات صلبة، عبر إقامة نظام حكامة رشيدة، قادرة على التصدي لظاهرة الفساد ، من خلال:
1- إقامة عدالة مستقلة، تتوفر على الموارد البشرية والمالية، الضرورية لتحقيق العدالة في موريتانيا.
2- الاهتمام بتسيير الموارد البشرية، وتحسين أوضاعها المادية والمعنوية.
3- اعتماد مبدأ الكفاء والرجل المناسب في المكان المناسب.
4- العمل على إجراء اصلاحات عميقة للإدارة الموريتانية .
5- إعادة هيكلة القطاعات الوزارية، بما يضمن التناسق بين الاختصاصات والفاعلية، مع مراعات ترشيد النفقات العمومية.
6- وضع استراتيجيات طويلة المدى واضحة المعالم ، لا تتغير بتغير المسؤولين.
7- وضع ضوابط صارمة للولوج للوظائف العمومية وإتباع المعايير المهنية بعيدًا عن ممارسة المحسوبية والزبونية.
8- الفصل بين بالوظائف الإدارية والوظائف السياسة و إخضاعها جميعا للمعايير الموضوعية .
9- ينبغي مراجعة وإصلاح نظام الصفقات العمومية، بما يضمن الشفافية والعدالة ويحد من الفساد في إدارة الشأن العام؛ عبر وضع معايير دقيقة للمؤسسات التي تقوم بتنفيذ المشاريع العمومية، من حيث القدرة الفنية والمالية وتشديد الرقابة
على تنفيذها .
10- العمل على إبعاد كافة المتهمين بملفات الفساد، عن الإدارة العمومية.
11- العمل على تعزيز المدونة القانونية الخاصة بحماية المال العام.
12- ضرورة تفعيل مؤسسات الرقابة خاصة محكمة الحسابات، وتزويدها بالموارد المالية والبشرية، لتمكينها من القيام بعملها على أكمل وجه.
سابعا :ضرورة ترسيخ الوحدة الوطنية .
ولترسيخ الوحدة الوطنية، ينبغي العمل:
1- اعتماد لغة واحدة في الحياة العامة.
2- تأسيس مدرسة جمهورية حقيقية.
3- وحدة المنظومة القانونية.
4- إرساء دولة القانون ، الضامنة للمساواة بين المواطنين و تكافؤ الفرص .
5- تسوية الإرث الإنساني بشكل عادل .
6- القضاء على مخلفات الرق :
حان الوقت للقضاء على الرق في موريتانيا وإزالة مخلفاته، من خلال :
*- العمل على تفعيل المدونة القانونية الخاصة بمكافحة الرق.
*- اعتماد سياسة اجتماعية للقضاء على التفاوت الاجتماعي .
*- العمل على اطلاق ديناميكية تنموية، تخلق ثروة وطنية تضمن زيادة فرص العمل، لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، وبالذات الطبقات المهمشة والمحرومة.
في الخلاصة.
ينبغي العمل على تصحيح الأخطاء التي حصلت خلال العقود الماضية
ومواكبة ذلك بإصلاحات عميقة في كافة مناحي الحياة بموريتانيا،
لضمان عبورها إلى المستقبل وتحقيق أهداف التنمية.