مع كل زيارة لرئيس الجمهورية أو وزيره الأول ترتفع بعض الأصوات المطالبة بعدم الحشد قبل الزيارة، وتجاوز منطق العالم الثالث إلى واقع الدول الأوروبية ، أو الحقبة الراشدة، وثقافة الرئيس الأجير لدى الشعب، والحشد مظهر متخلف!.
لكن أغلب المتصدرين لهذا المشهد للأسف الشديد هم من يصنع الواقع الذى ينتقدون ، وبعضهم يحرص - أكثر من زعماء القبائل- على الظهور المخجل، ولو من بوابة كاميرا هاتف تبث صدره وبطنه وشظايا من وجهه فى لحظة شجار أو عراك أو تحامل على فلان أو علان داخل مهرجان أو قاعة حفلات، أو فى الشارع فى بعض الأحيان !!.
(1)
حينما ركب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى طائرة خاصة وتوجه إلى عدل بكرو عشية غرقها دون ترتيب، مكتفيا بزيارة المناطق المنكوبة، بحضور السلطة الإدارية وبعض المنتخبين، ضجت وسائط التواصل الإجتماعى، وتبادل البعض التهاتى بعزوف الشعب عن استقبال رئيسه، واعتبر بعض المتصدرين للشأن العام - فى لحظة ضعف لحركة التاريخ - أن الشعب قال كلمته وأن الرئيس يجب أن يستوعب الدرس، بل زاد البعض بالدعوة لانتخابات جديدة بحكم أن " مقاطعة الشارع" لزيارة الرئيس استفتاء يجب أن نأخذ بنتائجه ونرتب عليها مايجب أن يرتب سياسيا أو هكذا خيل إليه.
ومن الطبعى جدا أن تكون ردة فعل صاحب القرار بحشد فى الشارع يسفه أحلام نخبة الفيس، وساسة الواتساب، وأن ينخرط الجمهور الداعم للرئيس من نواب البرلمان وعمد المجالس المحلية وشيوخ القبائل فى الحشد، باذلا وقته ، وماله ، وجهده، ومؤكدا تشبثه بالخيار الذى آمن به وزكاه فى آخر استحقاق انتخابى.
(2)
ولعل الغريب حقا فى سلوك المطالبين للقبائل والجهات والفئات بالعدول عما أستقر عليه العرف لديها ، وأختارته كتعبير عن وجودها السياسى على الأرض، وإظهار مدى الفاعلية والتأثير، هو حرص الطرف الآخر على الحشد فى الشارع لتعزيز رؤاه، ودعم نظرته للسلطة وتسييرها، عبر سوق الناس بالانضباط الحزبى، أو رفع الشعارات الحقوقية و الفئوية التحريضية من أجل الظهور بمظهر الطرف الممسك بزمام الشارع ، وجر النظام إلى مربع التفاوض تحت ضغط التظاهر والحشد والإزعاج ، وحمل الآخرين على تقدير منظومته الحزبية أو موقعه بين الناخبين ، دون أن يكتفى بدور المؤسسات فى النقد والتوضيح والنقاش وإظهار نقاط الضعف، وبالتالى تحول الشارع إلى إسناد لرؤى الموالين والمعارضين، ولكل طيف شارعه الذى يرفعه فى وجه الآخر، كلما أحس بالحاجة إلى فعل ذلك ...
(3)
لكن الغريب حقا هو خروج البعض فى كل مناسبة أو دونها، للطعن فى أهلية الآخرين، دون أن يقوده نضجه الذى يعبر عنه إلى التعامل داخل الهيئات الحزبية أو البرلمانية أو التحالفات السياسية بمنطق عصرى، يكتفى فيه النائب برأي كتلته أو تنتدب فيه الكتلة البرلمانية من يعبر عنها فى نقاش الميزانية أو استجواب الوزراء، أو نقاش مشاريع القوانين ، لكن المتابع للمشهد يدرك كيف تقسم الحصص - على هزالتها- بين النواب ، دقيقة دقيقة، وتارة نصف دقيقة ، لأن كل نائب يستشعر فى قرارة نفسه أنه يمثل جهة ، أو قبيلة، أو مدينة ، أو فئة، أو أسرة، وهو مطالب بالتعبير عن رؤية تلك الجهة لواقع البلد فى تلك اللحظة، دون أن يتذكر تقاليد الديمقراطيات العريقة أو أساليب الغير فى التعبير عن المواقف، وإدارة المشترك والتعالى على منطق الأنا القاتل، والفردانية المانعة فى بعض الأحيان من الانتظام فى غير الثوب الذى يلبس.
كما أن منصات الأحزاب تتحول فى بعض الأوقات إلى حظيرة، يتنافس فيها المرؤوس مع الرئيس للظهور بمنطق المميز عن الجمهور، فترى أعضاء المنظمات الشبابية يزاحمون شيوخ التأسيس فى المقاعد الأمامية، ولكل واحد يافطة يجب أن ينادى بها، وله كلمته المنفصلة عن الإطار الأم، فى مشهد يعكس تنوع القبائل والفئات والأعراق والجهات داخل المنظومة الواحدة، والويل كل الويل لمن أخطأ التقدير وغيب مكونا لم يجد من يمثله ولو بنظام الإعارة كما هو معمول به فى الدوريات الأوربية !!!.