الإفراج عن الرئيس السابق بحرية مؤقتة، مع إبقائه قيد الرقابة القضائية في منزله، يخبر عن أشياء كثيرة، لكن واحدا منها يعد بارزا إلى درجة يصعب معها تجاهله، ألا وهو تلك الحقيقة التي ما زالت القلة الباقية مع الرئيس السابق تنكرها.
حقيقة أن هذا الرجل أصبح مواطنا عاديا لا يشكل أي خطر على أحد، ولا يحسب له النظام السياسي القائم أي حساب. هذا الرجل الذي كنتم تزعمون أنه يمكن أن يهد البلد على ساكنه، ويستبدل النظام السياسي متى شاء، وأنه مالك أوراق القوة الوحيد في هذا البلد. هذا الرجل الذي كنتم تزعمون أنه صاحب اليد الطولى في السياسة والعسكر، والمال، والعلاقات. هذا الرجل الذي زعمتم أن القبائل تدين له، وأن الشباب معلق به، وأن نخبة البلد رهن إشارته.
هذا الرجل الذي زعمتم أنه رب العلاقات في إفريقيا، والعالم العربي، وأن الأوروبيين لا يثقون في غيره.
هذا الرجل أصبح قرار سجنه وحريته بيد رجل جالس في مكتب متواضع بواحدة من المحاكم، لا يملك إلا قلما وورقة، ولقبا هو مسماه الوظيفي؛ "فضيلة القاضي". هذا الرجل صاحب اللقب لا علاقة له بالسياسة ولا بالأمن، ولا بالقبائل، ولا علاقة بينه مع أي جهة سياسية، إلا ما كان من وصاية تربطه بوزارة العدل.
إن هذا الرجل يمنع عليه القانون، وتمنع عليه الأعراف، وتمنع عليه كرامة القاضي ومكانته أن يتلقى أمرا من أحد أو توجيها من أي جهة. إنه مالك ما سيسطره في تلك الورقة المطروحة بين يديه، بذلك القلم ذي الحبر الأزرق الجاف.
هذا الرجل منذ أشهر وهو صاحب الكلمة الفصل في المكان الذي يبيت فيه هذا الرجل الذي جعلتم منه سلطان السلاطين ورئيس الرؤساء وملك الملوك.
وحده ذلك الرجل الجالس خلف ذلك المكتب المتواضع، وبناء على معطيات ينظر فيها بعين الفاحص، ويتلمس الثغرات القانونية في صياغتها، وفي جنبات حروفها، وبين سطورها، يمكن أن يقرر أين يبيت الرئيس السابق، ومن يلتقيه، ومن يدخل عليه.
لكن هذا الرجل صاحب المظهر البسيط كان أرزن وأعمق وعيا من أولئك المحامين الذين تذرعوا بتوكيلهم من قبل الرئيس السابق، وراحوا يكيلون الشتائم، ويقفزون على الحقائق، ويظلمون التاريخ والقانون والسياسة، ويزايدون على فلذات كبد الرجل العليل.
كان ذلك الرجل أعمق نظرا، وأحنى على من أوقعه القانون تحت يده، وأرأف بالرئيس السابق ممن وكلهم الرئيس السابق، ومن يتوقعون أن يجنو بعض المال من الرئيس السابق.
آمن هذا الرجل البسيط المظهر بالقانون، وآمن بالعدالة، وآمن بالإنسانية، لذلك لم يتردد في إحضار أمهر الأطباء إلى السجن لمعاينة الرجل الواقع تحت سلطانه، ولم يتردد في نقله إلى حيث يجب أن يكون تحت رعاية الأطباء، وذوي الاختصاص. وحين ظهر للأطباء وذوي الاختصاص أن بالسجين حاجة إلى مكان أرحب من السجن، وأن صحته تتطلب رعاية العائلة إلى جانب رعاية الأطباء، قرر ، بعد التشاور مع زملائه، إعطاءه فرصة لنيل قسط من الراحة في بيته وبين أفراد عائلته.
كان الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز خلال الأشهر الماضية محل صراع بين طرفين ممن يزعمون أنهم داعموه؛ طرف لا يرى في الرئيس السابق أكثر من غنيمة يجب الاستفادة منها ماديا معنويا بأقصى درجات الاستفادة وأقسى أساليب الاستغلال، وهؤلاء يسابقون الزمن بثلاثة أمور:
الأول. أقصى درجات التسييس للقضية، لإدراكهم أن إخراجها إلى حيز السياسة، يجعلها قضية رأي عام، قابلة للاشتعال الدائم، وكلما احتلت جيزا من الفضاء العام، كلما حققوا على متنها شهرة أكثر، وكان تحويل تلك الشهرة إلى مكتسبات مادية أسهل.
الثاني. أقصى درجات التصعيد الممكنة، لأن التصعيد هو الطريق الذي يمكن من خلاله استفزاز بعض أجهزة الدولة ليقول أو يفعل ما يمكن أن يحقق مزيدا من الحضور في الرأي العام، ويمكن أن يجعل فلانا يخرج من طور صاحب الدور الهامشي إلى المدافع عن حقوق الإنسان، وإلى الواقف وقفة الأبطال، وهو يعلم حقيقة موقفه، ونفعية مبتغاه.
الثالث. اختلاق قصص واصطناع الأكاذيب، وإخراجها إلى العالم على أنها حقائق؛ جربوا ذلك مع الوضعية الصحية، وحين صدمهم بيان وزارة العدل الأول اختلقوا قصة العمليات القسرية، وحين رد عليهم الأطباء مبينين زيفهم، اختلقوا قصة تجدد تدهور الصحة، فرد عليهم الرئيس السابق نفسه من خلال ابنته أسماء. فجاؤوا بالفرية الثالثة التي عزفت على تجدد تدهور الصحة، فكان الرد من الطاقم الطبي بتحسن صحة الرئيس السابق.
وقد فاجأهم قطب التحقيق بقبول طلب الإفراج المؤقت، الذي تقول القراءة المتأنية في سلوكهم إنه كان مجرد اختبار لإرادة القضاء، والبحث عن نقطة تصعيد جديدة. لقد فوتت عليهم السلطات القضائية الفرصة مرتين؛ مرة حين منحت الرئيس السابق الحرية المؤقتة، ومرة حين عللت ذلك جزئيا بالتقرير الطبي الذي أشار إلى حاجة المريض للراحة.
عليهم أن يتركوه يرتاح بعيدا عن ضوضاء السياسة، وأبواق التحريض على التصعيد.
أما الطرف الثاني فهو ذوو الرئيس السابق الذين يطمحون إلى نهاية ملفه، أو يرجون أن ينتهي بأقل الخسائر، خاصة حين يتعلق الأمر بحياة الرجل وصحته. لقد جرب الرئيس السابق الانصياع وراء رغبات الطرف الأول فترة من الزمن، ولعله بعد أن مضى بعض الوقت يجرب التفاعل مع رغبات الطرف الثاني.
ولعل القضية بهذا تنحصر في حجمها الحقيقي؛ رئيس سابق متهم بالفساد أمام قضاء يمارس عمله بعيدا عن مختلف أنواع الضغوط، ولعل الإشارة الأولى التي على الرئيس السابق الآن إعطاؤها هي تغيير واجهة فريق الدفاع عنه، بعد أن سحب منهم الثقة عمليا خلال أزمته الصحية.