كانت الساعة الخامسة فجرا يوم السبت 4 يونيو 2005 عندما طوق مسلحو الجماعة السلفية للدعوة والقتال بقيادة مختار بلمختار المعروف ببلعور حامية تابعة للجيش الموريتاني في منطقة لمغيطي (530 كلم شمال شرق أزويرات).
كان الجنود يستعدون لصلاة الصبح، وكانت الحماية غير مشددة علي الثكنة العسكرية المعزولة في عمق الصحراء الموريتانية، لقد كانت ساعة رهيبة تلك التي تعرض فيها جنود الحامية لنيران المسلحين التابعين لبلعور من الجهات الأربعة في مجزرة لا تزال تفاصيلها محفورة في أذهان الناجين، ولايزال ضحاياها ينتظرون تقديم الجناة للعدالة، ومحاسبة المقصرين من قادة الجيش ورموز النظام الحاكم ساعتها.
طوق مسلحو الجماعة السلفية للدعوة والجهاد الحامية من الجهاد الأربع، وشنوا هجومهم المباغت من كل صوب، مستغلين جغرافيا المنطقة والكثافة النارية لفرض أمر الواقع داخل الثكنة العسكرية المتواضعة، حيث يقبع 53 من أبناء القوات المسلحة داخلها دون امداد من الجيش أو حماية من الطيران العسكري المفقود.
شارك 150 من عناصر الجماعة السلفية في المجزرة الرهيبة، واستمرت المواجهة أربع ساعات – كما قال الجيش الموريتاني وبيان الجماعة- ، وانتهي الأمر ببسط التنظيم المتطرف سيطرته علي الحامية العسكرية في الصحراء، مستفردا بضباطها وجنودها، بينما كان كبار القادة في العاصمة نواكشوط يتبادلون الأخبار عبر الهاتف والنكت دون أدني علم بما يجري في المنطقة العسكرية التي تعرض أهلها للإبادة علي يد تنظيم متوحش يعتمد الكثافة النارية والإمعان في القتل وسيلة لتعذيب مناوئيه.
اعدم المسلحون بلا رحمة بعض الأسري الذي سقطوا في أيديهم، وفي مقدمتهم الشهيد النقيب محمد ولد الكوري الذي أعدم رميا بالرصاص أمام جنود الحامية من قبل بلعور ورفاقه،كما سحبوا سيارات الحامية (7 من لاندي أكريزير) وبعض الأسلحة الثقيلة، والذخيرة وأضرموا النار في الباقي في مشهد سادي هز مشاعر أركان المؤسسة العسكرية، وعجل بالإطاحة بنظام الرئيس معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع.
كانت مجزرة بحق، لقد قتل 15 جندي في موقع الهجوم، وأصيب 17 بجراح خطيرة، بينهم خمسة لفظوا أنفاسهم في الطريق إلي نواكشوط، وكانت عملية قاسية علي الجيش الموريتاني، بل والشعب كافة وهو يري جنوده يتساقطون بفعل وحشية الجماعة الإرهابية والحكومة المنشغلة بالصراع السياسي عن تدبير أمور البلد.
تمكن أفراد الحامية من قتل ستة من المهاجمين بينهم قادة بارزون في التنظيم، وحمل المهاجمون قتلاهم إلي صحراء الجزائر، بينما بقيت جثث الجنود الموريتانيين داخل الثكنة في انتظار وصول الإسناد من العاصمة نواكشوط أو القوات العسكرية المرابطة في تيرس زمور.
تخبط رئيس وانهزام نخبة
حاول الرئيس معاوية ولد الطايع وكبار معاونيه لملمة الأمور، وتسيير الأزمة عبر فقاعات اعلامية يطلقها كبار قادة الحزب الجمهوري للديمقراطية والوحدة، بل بحث مسالة الرد العسكري علي الجماعة السلفية أو تعزيز المنظومة الأمنية والعسكرية بموريتانيا.
اجتمع الرئيس علي الفور بأركان حكمه، وتلمس دعم شركة أسنيم للجيش ووفر عبد الله ولد أنويكظ البنزين لسيارات المؤسسة المنكوبة، وتحرك أبواق النظام باتجاه التيار الإسلامي بكافة أطيافه من أجل احتواء الأزمة، والبحث عن خصم داخلي يمكن الاستفراد به، بعد أن هزت العملية الصورة التي كانت مرسومة للنظام العسكري بموريتانيا، ووقف الرئيس معاوية ولد الطايع وقائد أركانه العربي ولد جدين أمام المشهد المحزن وهم عاجزون عن التصرف، وفي اليوم الثالث للأزمة قام ولد الطايع بزيارة الجرحى في المستشفي العسكري بنواكشوط للاطمئنان علي الضحايا وإيهام الرأي العام بأن الأمور تحت السيطرة.
حاول قائد الأركان العقيد العربي ولد جدين ومساعديه احتواء الموقف علي الأرض، وتحركت وحدة عسكرية من منطقة الغلاوية (300 كلم تقريبا من مكان الحادث) عبر طرق صحراوية وعرة، وتحركت وحدة أخري من مدينة أزويرات (540 كلم تقريبا)، وحاول الطيران العسكري القيام بعمليات انزال للمظليين في المنطقة القريبة من الحامية العسكرية من أجل استكشاف الموقع ومد يد المساعدة للضحايا.
وقد كان بيان الجيش الموريتاني صادما للرأي العام وأسر الضحايا، فقد أكدت العلاقات الخارجية في الجيش أن القوة المهاجمة تتفوق عدة وعتاد علي الحامية العسكرية، مؤكدة قوة المقاومة التي تعرضوا لها، وبسالة الجنود الذين واجهوا كثافة النيران ببسالة منقطعة النظير.
وزير الدفاع باب ولد سيدي اعلن في وقت لاحق وقوع العملية، وأضاف بأن اثنين من مقاتلي الجيش فقدوا بعد الاشتباك دون أن يجزم بأسرهم من قبل التنظيم أو فرارهم من المواجهة، متهما الجماعة السلفية للدعوة والقتال صراحة بالوقوف وراء العملية البشعة التي راح ضحيتها 15 جنديا وجرح فيها العشرات.
وحاول الوزير باب ولد سيدي ربط الهجوم بالملف الداخلي، مذكرا الرأي العام الموريتاني بما أسماه محاولة الجماعة تجنيد وتدريب عدد من الشبان الموريتانيين قبل فترة (20 شابا)، والتحضير للقيام باعمال ارهابية داخل البلد،مدعيا دخول عشرة من مسلحيها لنواكشوط، حيث تم توقيف سبعة منهم والبحث جار عن ثلاثة آخرين يفترض أنهم دخلوا البلاد بهدف القيام بأعمال ارهابية حسب وزير الدفاع.
وتابع ولد سيدي في تصريحه الذي تداولته وكالات الأنباء والتلفزة الرسمية " نظرا لفشل هذه المجموعة في تنفيذ المهمة التي كلفت بها، في ظل الدعوات والفتاوى التي تحرض على التطرف الديني وقتل الأبرياء في بعض المساجد بنواكشوط ونواذيبو، باشرت الجماعة السلفية العمل بنفسها مستخدمة قوة تزيد على 150 مقاتلا، لشن هذا الهجوم الإرهابي، وقد اتخذت قواتنا المسلحة وقوات أمننا ما يستلزمه الموقف من احتياطات وتدابير".
وقد عقد ولد الطايع اجتماعين بقيادة الأركان بحضور كبار الضباط لبحث التدابير اللازمة بعد العملية، كان الاجتماع الأول يوم السبت الساعة الرابعة مساء (بعد خمس ساعات من المجزرة) أما الثاني فكان مساء الأحد بعد وصول القوات الموريتانية إلي الحامية العسكرية والتبليغ عن الموقف علي الأرض، والاطمئنان بأن مقاتلي الجماعة السلفية لدعوة والقتال عادوا إلي صحراء مالي.
التنظيم يزهو بفجوره
لكن تنظيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال قطع الشك باليقين حينما اعلن صراحة تبنيه للعملية واصفا اياها بأنها غزوة مسلحة، وأطلق عليها اسم "غزوة بدر".
واعتبرت الجماعة أن عملية لمغيطي تعطي رسالة واضحة للعالم بأن أعمالها لا تنحصر في مقاومة العدو الداخلي (الجزائر)، بل تستهدف تطال أعداء الملة والدين أينما ثقفوا.
لقد كانت عملية لمغيطي بداية التحول في فكر الجماعة السلفية للدعوة والقتال بالجزائر، وكانت من العمليات القلائل التي نفذها قادة التنظيم خارج حدود دولة المنبع، لقد كانت رسالة صريحة للعالم بأن الكأس الجزائرية فاضت، وأن الإرهاب في طريقه للتمدد نحو دول الساحل والمصالح الغربية فيها.
رفض داخلي ودعم معنوي للجيش
سارعت القوي السياسية الموريتانية كافة إلي رفض العدوان الذي قامت به الجماعة السلفية للدعوة والقتال، وعبر أحزاب معارضة للسلطة عن تضامنها مع الجيش في مواجهة العدو الخارجي، وعن أسفها للحادث الذي وصفته بالخطير.
واصدر حزب الملقتي الديمقراطي (حمد) وحزب تكتل القوي الديمقراطية ، ورابطة المدافعين عن المعتقلين ورابطة الأئمة بيانات سريعة تدين الحادث وتدعم الجيش، وتدعو لصرف الصف في مواجهة الأخطار الخارجية.
وقد اصدر التيار الإسلامي بيانا وقع باسم "الإسلاميون" دان العملية ووصفها بالجريمة النكراء.
ودعا الإسلاميون في البيان المنشور يوم السادس من يونيو 2015 "كل الأطراف الوطنية بمن فيهم السلطة الحاكمة إلى العمل معا وبمسؤولية وصدق من أجل تجنيب موريتانيا الانجراف والغلو والإرهاب ، ولا سبيل إلى ذلك إلا من خلال المصالحة الوطنية والديمقراطية الحقيقية والحوار المسئول والبناء".
ووقع البيان علي غير عادة القوي السياسية بأسماء الموقعين عليه في مقدمتهم المحامي عبد الله ولد الركاد والأستاذ خطري ولد حامد والداعية محمد ولد أبواه، مع بعض رموز العمل السياسي مثل جميل ولد منصور والسالك ولد سيدي محمود ومحمد غلام ولد الحاج الشيخ،والشيخاني ولد بيب.
كما عبر حزب التحالف الشعبي التقدمي المعارض عن انشغاله بهشاشة القوات المسلحة الموريتانية داعيا الحكومة إلي اعادة تنظيم الجيش وبدون تأخير وجعله في ظروف تمكنه من الأداء المشرف وفي أي وقت للمهمة الجمهورية النبيلة الموكلة إليه.
لكن تحرك القوي السياسية المعارضة نحو المصالحة والوئام، قوبل برفض داخلي من عتاة الحزب الحاكم ساعتها، قادة الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي الذين رفضوا التعاون مع الإرهابيين في الداخل – علي حد وصفهم- واطلقوا حملة تعبئة عامة في وسائل الإعلام الحكومية لتحويل النكبة إلي حراك داعم للرئيس معاوية ولد الطايع وسياساته التي جرت الويل والثبور لكل أبناء البلد المسالمين، قبل أن تطيح به زمرة من أبناء القوات المسلحة بعد شهرين من الحادث الأليم الذي هز موريتانيا كافة.
موقع زهرة شنقيط - خاص