بعد تجربة استثنائية : هل تجدد الأغلبية لأبرز نوابها داخل البرلمان؟

 بين طموحه السياسى، وإكراهات الخدمة العسكرية، تدرج الضابط البارز بالبحرية الوطنية الشيخ أحمد ولد بايه من رتبة نملازم أول داخل الجهاز الذى التحق به نهاية سبعينيات القرن الماضى،  إلى تسلمه أركان البحرية 2003 وهو ضابط رفيع برتبة عقيد ( أعلى رتبة ساعتها متداولة فى القوات المسلحة).

ورغم أن نظام العقيد معاوية ولد الطايع وهو يصارع من أجل البقاء، لم يمهل العقيد الشيخ ةلد بايه أكثر من بضعة أشهر فى سلم القيادة، بفعل السلوك غير العدوانى الذى تعامل به مع المحالين إليه من المشاركين وغير المشاركين فى المحاولة الإنقلابية 2003، إلا أن الأخير حافظ على انضباطه وتحليه بالهدوء والصمت، رغم مساعى الإبعاد (تعيينه كملحق عسكرى فى واشنطن)، ليكون أول شخصية من ضحايا نظام الرئيس المطاح به معاوية ولد الطايع يعاد إليها الإعتبار بشكل فورى، مع تسلم المجلس العسكرى للعدالة والديمقراطية مقاليد الحكم فى البلاد.

 

 

بضعة أسابيع كانت كافية ليقرر الرئيس الراحل العقيد اعل ولد محمد فال تعيين العقيد الشيخ ولد بايه على رأس المندوبية البحرية، من أجل تفعيل القوانين المنصوص بها ( مكافحة الرشوة والفساد والتهريب)، وضبط قطاع ينظر إليه الشريك الأوربى كخاصرة رخوة ساعتها (الشواطئ الموريتانية)، بفعل ملف الهجرة السرية الذى أحرج حكام البلاد الجدد، وهي أمور كان مرسوم تعيين ولد بايه بداية النهاية لها، بشهادة أبرز مناوئيه قبل معاونيه.

 

 

خطوة وصفها الشيخ ولد  أحمد ولد بايه عشية رثائه للعقيد الراحل اعل ولد محمد فال بأنها كانت ذات دور محورى فى مساره الحالى، معربا عن امتنانه للرجل الذى وقف إلى جانبه ذات يوم، ضاربا عرض الحائط بالجو الذى كانت تعيشيه البلاد فى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وموقف البعض من العقيد اعل ولد محمد فال عليه رحمة الله.

 

أدار ولد بايه ملف الصيد بكل جدارة، وأعاد للمنظومة التنفيذية هيبتها، وتحركت المنظومة الأوربية بعد تفاوض شاق، نحو منطق الإحترام والشفافية والتعويض الكافى عن مصائد أسماك تعودتها سفنهم خلال العقود الماضية دون مقابل، ولملم قائدهم ذات يوم أوراقه، بعدما رفض العقيد الصارم التفاوض مع شخص يفتقد لقيم الإحترام والنزاهة، وأجبر خليفته على احترام التخصص، عبر التفاوض مع الممسك بالملف لاغيره، والتوقيع تحت إشراف الوزير قبل المرور بالرئيس، وكانت ليلة التوقيع على الإتفاق الموريتانى الأوربى شاهدة على محورية الشيخ ولد أحمد ولد بايه ووزير الصيد ساعتها النانى ولد أشروقه فى ملف ولد بعد مخاض عسير، ومسار حسم إلى غير رجعة، بعد محاولة ابتزاز أفشلها صمود الوفد المفاوض وتغيير آلية التشاور المعتمدة.

التمديد الخاص الذى حظي به الشيخ ولد أحمد ولد بايه من الرئاسة الموريتانية (2006-2010) لم يقبل الرجل أن يكون النهاية لمشواره، بل تحول إلى خدمة بلده وهو مجرد مستشار بوزارة الصيد، قبل أن يختاره سكان بلدية أزويرات عمدة للمدينة، وهو إجراء أعاد الأمل للمدينة المنجمية بعد عقود من الإهمال، فطرحت مشاكل الكهرباء والبحث لها حل، والمياه الصالحة للشرب، ومساكن العمال، وتخطيط الأحياء العشوائية، وتنظيم الأسواق، وتجهيز المراكز الصحية، وحل مشكل الطريق الحلم، مع اهتمام خاص بالتعليم الذى كانت بصمة الشيخ ولد بايه فيه حاضرة قبل توليه منصب العمدة وبعد ذلك، عبر توفير رعاية خاصة لأبناء الفقراء والأيتام، وتقديم منح خارجية لبعض الطلاب المتميزين، وحلحلة مشاكل المؤسسات التربوية طيلة فترة توليه لقيادة البلدية (2013-2018).

 

ومع بداية الحراك السياسى سنة 2018 طرح الشيخ ولد بايه للتداول كنائب عن المقاطعة ذاتها فى الجمعية الوطنية، وهو القرار الذى قاده لاحقا إلى قيادة الجمعية الوطنية، بعد إجماع منقطع النظير داخل الأغلبية الرئاسية، وتحفظ من معارضيه الذين عاشوا لفترة تحت تأثير الدعاية المضادة للرجل، قبل أن تتاح لهم الفرصة، وللرأي العام من خلفهم، لمعرفة النائب الشيخ ولد أحمد ولد بايه كما هو، بعيدا عن الصورة النمطية التى يرسمها البعض للمخالف دون أدنى تحقيق أو تثبت!.

شكلت الأشهر الأولى من توليه مقاليد التأثير فى الجمعية الوطنية فرصة للمتندرين ، وهم يرسمون فى الإعلام صورة للعسكرى الذى أجلس عنوة على قمرة القيادة فى مؤسسة دستورية تحظى بالكثير من الرمزية والإحترام.

 

غير أن الرجل تمكن خلال أشهر معدودة من تقديم نفسه للرأي العام كما هو، لا كما حاول البعض تقديمه. هادئ رغم كل الضجيج داخل الساحة المحلية، واثق من نفسه رغم المحيطين به من رموز الأغلبية والمعارضة، حازم مع الكل دون تمييز، متسامح فى إدارة الجلسات مالم يتم الإخلال بقواعد العملية، جريئ فى التعبير عن رأيه فى القوانين والأشخاص والأحداث دون مجاملة. مهتم بالجمعية التى كلف بتسييرها من قبل رفاقه دون الإهتمام بما يدور حوله من صراع على النفوذ والسلطة والتآمر بين أبناء الحزب الواحد، بغية مزيد من التحكم فى مسار الأمور.

 

وحينما امتحنت إرادة نواب الأغلبية وبعض المعارضين فى ملف التعديل الدستورى (المأمورية الثالثة) سنة 2019، وقف رئيس الجمعية الوطنية الشيخ ولد أحمد بايه فى مقدمة الرافضين لكل الضغوط الرامية إلى جمع مايكفى من توقيعات لتمرير التعديل الدستورى، غير متسماح مع أي دعوة بشأن خرق الدستور، ليؤكد للكل أن توليه مقاليد البرلمان، غير خاضع للمقايضة، وأن موقفه هو ذاته ، بغض النظر عن عدد مخاليفه أو الجهة المستفيدة من المخالفة القانونية التى تحمس لها البعض، ووقف فى وجهها البعض الآخر.

 

وقف النائب الشيخ أحمد ولد بايه ابريل 2019 مع رفيق دربه وصديقه داخل الجيش وخارجه، الفريق محمد ولد الشيخ الغزوانى (وزير الدفاع ساعتها)، مزكيا ترشحه للإنتخابات الرئاسية ، وطالبا من كل النواب دعمه فى ليلة سياسية مشهودة بأحد الفنادق الواقعة وسط المدينة (الأجنحة الملكية)، لأنه الخيار الأفضل لقيادة البلد فى الوقت الراهن ، والشخص الذى إذا وعدك يمكن أن تنام وأنت مطمئن أنه لن يخلف ذلك الوعد إطلاقا، والضابط الذى أمتاز خلال سنوات الدراسة ، و التكوين ، والعمل بأنه آخر من ينفض يديه من صحبة رفاقه، وأكثر الناس صبرا على سلوك أصدقائه طيلة المسار الذى عرفه فيه.

 

وحينما أرتبكت ساحة الأغلبية عشية أزمة المرجعية ، عاد الشيخ ولد أحمد ولد بايه من الخارج، ليكون إلى جانب رفيقه ورئيسه ، رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزوانى. فكانت الرحلة المشتركة من نواكشوط إلى أكجوجت، والظهور المشترك فى حفل رفع العلم والعرض والإستقبال، قبل أن يحزم أمتعته إلى العاصمة نواكشوط، من أجل التحضير لوضع حجر الأساس لمقر البرلمان الجديد، والذى كان أول نشاط لرئيس الجمهورية بعد عودته من أكجوجت، محددا أولوياته كرئيس للجمعية الوطنية ( بناء تراكمي داخل المؤسسة واهتمام بشؤون النواب بغض النظر عن الموقع والموقف).

 

أدار ولد بايه الجمعية الوطنية باقتدار كبير طيلة المأمورية الحالية، وربط شراكات وازنة مع الغرب والشرق والمحيط الإقليمي، ومكن المعارضة من حقوقها غير منقوصة، وحارب الفساد داخل البرلمان، وقلص حضور الرئيس فى الشأن المالى عبر تفويض التوقيع، مع اهتمام بالشؤون الإدارية، ضبطا للهيكلة، وترقية لعمل المنظومة البرلمانية، وتفعيلا للجان البرلمانية، وتمكين المعارضة من المراقبة الداخلية للأداء والتسيير، والسهر على احترام النصوص القانونية المعمول بها، ورعاية تجربة إعلامية غير مسبوقة فى المحيط الإقليمي على الإطلاق ( القناة البرلمانية)، ومحافظا فى الوقت ذاته على خط تحريري يحقق للأغلبية الحاكمة حضورها، ويمنح المعارضة حقها دون غبن، ويحارب صاحبه دون تردد الأحزاب الشكلية، عبر اقتصار الحضور على الأحزاب الممثلة فى البرلمان دون أي تحفظ من أي نوع كان.

 

سمح للقناة بل وجهها نحو الدوائر الإنتخابية لتأخذ رأي الناخب، وتطرح همومه بكل تفاصيلها المملة ، فكانت الأمور المطروحة بإلحاح حاضرة فيها، كملف الأعلاف وأزمة الجفاف، والمعادن وتأثيرها، وحمي الذهب وضحاياه، وانعكاساته الإجتماعية على السكان، والعطش فى الشمال والوسط، وملف النخيل والمخاطر التى تهدده، والأسواق الشعبية وحياة مرتاديها، والبحر وهموم البحارة، وغلاء الأسعار ومشاكل الفقراء أثناء أزمة كوفيد وما بعد كوفيد 19.

 

لم يعلق رئيس الجمعية الوطنية الشيخ ولد بايه على الحوار الذى قد يقلص بعض مأموريته الحالية ، بعد اتفاق كل الأطراف السياسية على ذلك، ولم يشغل نفسه بالتجاذب اليومي خارج البرلمان، ولم يستغل حضوره ونفوذه من أجل بناء أحلاف أو تفكيك أخرى، ولم يتصرف كناشط حزبى ، بل كرئيس جمعية وطنية، تاركا الصفة الحزبية خارج البرلمان الذى بات اليوم يمثله بكل ألوانه.

 

ومع بداية الحراك السياسى الحالى، والتدافع داخل الأغلبية الداعمة للرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى، لايزال الشيخ ولد أحمد ولد بايه وفيا لموقفه المنشغل بتسيير الواقع دون كثير اهتمام بالمستقبل، والعمل من أجل مزيد من التمكين للمؤسسة التى يديرها دون التعامل معها بمنطق الراحل المودع، أو المغادر الجائع الذى يحاول لململة ما أمكن، ولسان حاله " مابعد العشية من عرار".

 

ورغم ذلك يظل التجديد لرئيس الجمعية الوطنية الشيخ ولد بايه أمرا واردا، فقد جدد لرئيس جمعية وطنية قبله، وتظل مغادرته البرلمان إلى جهة أخرى ذات مكانة مرموقة أمر ممكن، كما أن عودته إلى منزله ومحيطه دون منصب انتخابى أمر وارد، فقد نال الرجل من الألقاب والمناصب العسكرية المتاح منها والممكن، ولدى البلد رئيس يعرفه حق المعرفة، وهو صاحب القرار الأول والأخير، ورجل بمكانة وتجربة الشيخ ولد بايه لايحتاج فى الغالب عرض نفسه أو التلميح لمن بيده القرار، ولكن صاحب القرار أدرى بما يخدم حكمه، وهو أعرف الناس بمعاونيه.

 

 
سيد أحمد ولد باب / مدير زهرة شنقيط