".. إن موريتانيا تلعب دورا محوريا كمرجعية ديمقراطية للاستقرار في الساحل"
هكذا لخص رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز رؤية أوربا لبلادنا، وهي رؤية مناطها الأساس ومرتكزها الحاسم محورية موريتانيا وانفرادها كمرجعية وقاعدة صلبة للسكينة والاستقرار في منطقة الساحل، إذ تنهض هذه المحورية على ركنين مكينين (الديمقراطية والاستقرار) لا مندوحة عنهما لتوفير جو الأمن الهدوء والطمأنينة الذي يمنح مداءات أفسحَ وأشملَ لمسارات التنمية ومسالك الرفاهية والازدهار التي تسلك بلادُنا صراطها السويَ ونهجها القويم، ـ على هدى وبصيرة منذ أربع حجج ونيف ـ نائية عن متاهات سبل الفوضى الفجاج من حولها ومُجافية طرائقها القددا، ومن المعلوم بداهة أن الديمقراطية والاستقرار صنوان يتخادمان ويتعاضدان، فلا سبيل إلى تعزيز أحدهما وتكريسه دون أن يتوكأ على الآخر، وقد بات الصنوان اليوم في منطقة الساحل المضطربة حلما يطاول مناط الثريا، ودونه خَرط القتاد ، حيث يراوح مستقبل الديمقراطية فيها بين المحال والمستحيل، وينمو الاضطراب والهرج في صحرائها كأشواك السّنط والسّيال.
تلك الرؤية التي تأبطها رئيس الحكومة الاسبانية بمعية رئيسة المفوضية الأوربية خلال زيرتهما لبلادنا، ورفعا العقيرة بالقول الفصل فيها، قول لا لبس فيه ولا التباس، فقد أضحت بلادنا كنفا للأمن والاستقرار والديمقراطية في الساحل، برغم اضطراب الوضع من حولها وعلى مشارف حدودها، وبرغم الجو الماطر والإعصار.
كان الحافز الأول لتبلور تلك الرؤية وخصوصيتها وانفرادها، ما يحيط ببلادنا من دوامة العنف وعدم الاستقرار عن اليمين وعن الشمال، والذي يتراءى للأوربيين على مرمى حجر يلوح هرجه ومرجه وفوضاه على الضفة الأخرى، ويوشك أن يتفلت من عقاله ويقذفهم طوفان هجرته الكاسحة بموج من فوقه موج.. لكنهم أدركوا كما أدرك غيرهم أن سياسات ورؤى مُكن لها في بلادنا في السنوات الأخيرة جعلت منها بحبوحة أمن واستقرار، وواحة سلم ورخاء، يزّاوَر كابوس الفوضى والاضطراب عنها ذات اليمين، ويُقرضها ذات الشمال، ومن حولها تتقاذف المنطقة دوامة العنف والوثوب على السلطة دون وجه حق أو سلطان من الناس أو رأي أو مشورة، فغرقت دول وشعوب من الجار ذي القربى والجار الجنب في دوامات الحروب الأهلية والإرهاب وأنشطة عصابات الجريمة المنظمة، وحركات التمرد والانفصال والانقلابات العسكرية، وتعثرت منظومة الديمقراطية لدى جيران آخرين في انتكاسات رهيبة وخطيرة.
ولم كاد الضيفان الأوربيان يغادران مطار نواكشوط الدولي بعد رزمة اتفاقيات وتمويلات غير مسبوقة، حتى كان رئيس البرلمان المغربي ينيخ الركائب في نواكشوط، مؤكدا أن موريتانيا تشكل بوابة المغرب على إفريقيا، مع ما يعنيه ذلك من أهمية علاقات البلدين وصيرورتها وعدم توفر بديل عنها حين تُولي المغرب وجهها شطر القارة السمراء التي ترتبط معها بمصالح استراتيجية وجوهرية كبيرة لا سبيل إلى الحفاظ عليها إلى عبر مسار نواكشوط الآمن والهادئ.
وفي نفس اليوم وصل وزير الخارجية الجزائري إلى العاصمة، ليصرح بأن موريتانيا والجزائر تتشاركان انشغالا عميقا إزاء ما يحيط بهما من توترات في بيئتهما الإقليمية المضطربة، فضلا عن أن علاقاتهما تعيش اليوم أزهى مراحلها التاريخية، ذلك أن الجزائر التي ترقب بقلق بالغ انهيار اتفاق الجزائر بين باماكو والحركات الأزوادية، فضلا عن انتعاش الحركات الإرهابية وعصابات التهريب والجريمة المنظمة وانعدام الاستقرار السياسي في بلدان أخرى من المنطقة، لا تجد سبيلا أفضل من شراكة استراتيجية مع بلادنا لدعم الاستقرار وتجنب تداعيات الفوضى الكارثية التي تعصف بالمنطقة.
وبالتزامن مع هذا الحراك الدبلوماسي والسياسي الباذخ في نواكشوط، أجمعت دول شمال إفريقيا بتناقضاتها وتضارب مصالحها، وبمباركة من سائر دول القارة على تقديم بلادنا لرئاسة الاتحاد الإفريقي للعام 2024، في مكسب دبلوماسي قاري يتجاوز صداه منطقة الساحل والصحراء بتوتراتها واضطراباتها.
كل هذه الزيارات المتتالية بل والمتزامنة، وهذه التزكية الإفريقية الجامعة، رغم تعدد الزوار واختلاف الرؤى، وتباين المواقف، تجعل من نواكشوط نقطة ارتكاز الجميع والمرجعية التي يأوي إليها من ينشد الاستقرار في هذه المنطقة، ويستنبط منها من اكتووا بنيران الاضطراب والفوضى في الساحل، أو من باتوا قاب قوسين او أدنى من ذلك، فهنا واحة الاستقرار والديمقراطية، وهنا مرجعية الرأي السديد والموقف السليم في الساحل والمنطقة عموما، وتلك حصيلة أربعة أعوام من حكم القيادة الحصيفة والسلطة الهادئة الرزينة.
بقلم: محمد محمود ولد أبو المعالي