بعد مجزرة "رادستون" .. هل استلمت باريس رسائل الكبار بالمنطقة؟

شكلت العملية النوعية لتنظيم "المرابطون" فى العمق المالى اليوم الجمعة 20-11-2015 أكبر ضربة توجه لأمن الجارة الشرقية مالى بعد ثلاث سنوات من التدخل العسكرى الفرنسى المباشر فى المنطقة، وبعد أسبوعين فقط من عودة "المظفر" ابراهيم بوبكر كيتا من جولته الباريزية، والتى حاولت فيها فرنسا اظهاره بمظهر الرجل القوى، والشريك الإستراتيجي لفرنسا الاشتراكية فى مواجهة الإرهاب بالساحل، بعد أن كانت قوى أخرى تقدم نفسها كرأس حربة فى مواجهة  التنظيمات المسلحة بالمنطقة، وتدفع بجيوشها إلى مظان الخطر فى صحراء "أزواد" القاحلة، ومضارب الرمال بين الجزائر والنيجر.

 

لقد نجح زعيم المجموعة "المرابطون" المختار بلمختار (بلعور) فى توجيه بوصلة العالم إلى مالى المشغولة بجراحها وعجز القائمين عليها، بعد أن تمكن خصمه اللدود "داعش" من توجيه أنظار العالم إلى فرنسا طيلة الأسبوع المنصرم، ضمن عملية تبادل للأدوار بين "القاعدة" و"داعش"، يكتب أصحابها المشهد بدماء الأبرياء والمسلمين فى اغلب الأوقات، وينتقون الضحايا بقدر كبير من الدقة والتوجيه.

 

لقد كانت كل المعطيات على الأرض تشير إلى وجود خطر داهم بدول الساحل، وكانت مشاهد الموت القادمة من "باريس" تستدر نظيرتها بإحدى الدول المجاورة لمعقل التنظيمات المسلحة بليبيا، لكن مالى الجريحة تشغالت أو انشغلت بتقييم قمة "الأليزيه" ونقاش مستقبل توزيع العائدات المالية منها عن لملمة أشلائها الممزقة، وضبط حدودها المفتوحة، وتأمين آخر مدنها المقدمة للعالم كإحدى نقاط التعيش السلمى والأمن المفروض بقوة "المليشيا" الظالمة، والقوات الغربية التى حولتها إلى "حانات خمر ساهرة"، بفعل قوة الوجود العسكرى الغربى، وتمركز اغلب قادة القوات الإفريقية المكلفة بفرض الأمن داخل أحيائها الفقيرة.

 

لقد نجح الماليون فى اغضاب الحليفين السابقين الجزائر وموريتانيا، ولم يتمكنوا من ارضاء فرنسا أو تأمين رعاياها فى اللحظة الغلط، لقد كان استهداف " رادستون" بمثابة النهاية لمشروع أراد من خلاله أسوء رؤساء باريس رسم خارطة جديدة لتحالفات الاشتراكيين بالمنقطة، وفرض مندوبيه على الدول المتحفزة لمواجهة الإرهاب، بدل التعاون معها لتأمين الساحل المشتعل.

 

أخطاء ساركوزي وحمقات هولاند

 

يجمع اغلب صناع القرار بالمنطقة المغاربية على أن الفشل الذى آلت إليه الثورة الليبية ناجم عن أخطاء فادحة ارتكبها الرئيس الفرنسى السابق "نيكولا ساركوزى" ابان غزوه لليبيا، وتحالفه مع القوى الإسلامية من أجل الإطاحة بالقذافى، ثم التنكر لها بضغط خليجى من أجل فرض حلفائه الجدد، الذين اختارهم الغرب لقيادة المجلس الإنتقالى بليبيا ابان الثورة، دون أن يتمكنوا من فرض أنفسهم فى الشارع بمنجز ملموس أو بهوى فى الأنفس يقنع الشعب والثائرين من أجله.

 

لكن أخطاء ساركوزى التى انتجت دولة فاشلة، وحكومتين متنافرتين فى الشرق والغرب، وكتل عسكرية خارج سلطة الدولة، ومنطقة آمنة لداعش والقاعدة، لم تجد من يتدخل لتصحيحها، بل عزف "فرانسوا هولاند" على الوتر الحساس، تاركا الخرق الليبى يتسع، والأخطاء تنمو، والصراع يحتدم من أجل تذكير الرأى العام الدولى والداخلى بفرنسا بأن سلفه "نيكولا ساركوزى" رجل يفتقد للحكمة، ومجمل تدخلاته العسكرية الخارجية مصدر ازعاج للعالم وتهديد للأمن، فاتحا هو الآخر جبهة موازية من أجل تجريب حظه فى القارة المنكوبة بصراع أبنائها وغطرسة مستعمريها.

 

لقد بدت الأزمة المالية الداخلية فرصة الاشتراكيين الوحيدة للدخول إلى القارة السمراء، وحاولوا عبر الضغط العسكرى والدعم الإفريقي على الأرض، وتوجيه الأموال للحكومة الفاسدة بباماكو اعطاء نموذج آخر للتدخلات الفرنسية فى افريقيا غير النموذج الليبى، رافضين اشراك القوى الإسلامية المعارضة لباماكو (أنصار الدين)، ومتعهدين بسحق المعارضة الإسلامية المسلحة الرافضة للحوار ودولة القانون ( القاعدة والتوحيد والجهاد)، مع محاولة استغناء فاشلة عن الدور الموريتانى والجزائر فى الحرب، وتقديم الرئيس المالى بوبكر كيتا كبديل مقنع ومطيع، من أجل بناء مجد لاتنازع فيه فرنسا، والتأسيس لمرحلة قادمة من التدخل المباشر فى صناعة المستقبل السياسى للأفارقة، وحسم الأمور على الأرض بقوة الطائرات وقنابل الموت القادمة من جنوب المتوسط.

 

لقد شكلت عمليات القاعدة بالعمق المالى فى يناير 2015 ومارس 2015 ونوفمبر 2015  صدمة لصناع القرار بجمهورية مالى – وهم أقلية-، و رسالة واضحة لباريس من حلفائها السابقين، بأن الشريك فى صناعة الإرهاب بظلمه وسوء تسييره للملفات الداخلية المعقدة، لايمكنه أن يحارب الإرهاب على الأرض، وأن اللعب فى الساحل من دون رموزه مكلف، وأن القاعدة وجماعات العنف السياسى بالمنطقة أقوى من سلاح الجو الفرنسى والأيادي المالية المرتجفة على الأرض .. فهل تعى باريس الرسالة؟ أم أن جنون العظمة سيدفعها لارتكاب المزيد من الأخطاء؟

 

سيد أحمد ولد باب / كاتب صحفى

ouldbaba2007@gmail.com