ولد النقره يكتب : تواصل بين ألق الطرح وواقعية الممارسة (*)

ليست هذه السطور دفاعا عن مواقف وخيارات التجمع الوطني للإصلاح و التنمية  "تواصل" أوتبريرا لها أو تعبيرًا بالضرورة عن رأي المؤسسة القيادية داخله بقر ما هي توضيح و " بيان لازم ما كان ليتخلف عن وقت الحاجة إليه " .

مخاض الولادة :

 

كان عسيرا علي حزب لم يَتَخَلقْ في رحم السلطة ولم يرضع من لبانها ولم يَحْظَ بالعناية المركزة اللازمة رغم الأعراض الجانبية الكثيرة و محاولات الإجهاض المستمرة .

ومع ذلك تمت الولادة وخرج المولود " تماما غير خداج " وحصل الحزب علي الاعتماد القانوني الضروري للعمل بوصفه " تجمعا سياسيا مدنيا " في الثالث من أغسطس 2007 بعدما حرم منه طوال عقدين ماضيين ، صحيح أن الرئيس المُنْقَلَبَ عليه : سيد محمد ولد الشيخ عبد الله هو من حاز شرف منح تواصل ذلك الاعتماد ولكن ليس صحيحا أنه تم في إطار صفقة سياسية سرية – كما رَوجَ البعض – لموادعة نظامه كان من استحقاقاتها المشاركة في الحكومة التي شكلها وزيره الأول السابق : يحي ولد احمد الواقف في مايو 2008 فالحزب لم يَسْتَجْدِ الاعتراف من أحد ولم يكن ليقبل المساومة أو الابتزاز أو يُقَايِضَ الترخيص بأي ثمن !

 

 وحين أتخَذَ الرئيس المُقَالْ القرار بمنح المشروعية القانونية للحزب كحق دستوري مكفول لأصحابه كان علي وعي تام و إدراك كامل بتجَذر الشرعية التاريخية إلي جانب الجماهيرية لهذا الحزب أيضا وما كان يسعه أن ينسي أو يتجاهل – كما يفعل بعض المتعالمين الآن – أن أغلب القيادات و الكوادر المُشكلة للحزب الجديد كانت بمثابة الوقود المدني الأساسي الذي أسعر أوَّار الانتفاضة السلمية ضد النظام " الأوتوقراطي " لولد الطايع و التي بلغت ذروتها ربيع 2008 حين أصبح " المنبر المسجدي " وما يمثله من قدسية خط الدفاع الأول عن الحقوق المدنية للمواطنين في مواجهة سياسة القمع و تكميم الأفواه التي انتهجها النظام إبان ذاك فقد زج بالمئات من خطباء المساجد إلي جانب بعض العلماء و النشطاء الأحرار في سجونه في وقت ترجل فيه كثيرون ممن كنا نعدهم من فرسان الكلمة وسدنة اليراع ، ظل هؤلاء يُمَسكون بالحرية ويكتوون بجمرها المتلمظ و يضحون في سبيلها بلا توان .

 

هذا النفس النضالي العالي الذي بقي محافظا علي زخمه حتى آخر يوم من حياة النظام البائد كان حاضرًا في حسابات الترخيص مثلما كان ماثلاً الحضور الجماهيري عقب استحقاقات 2006 م التي خاضها أنصار التوجه ( الحزب ) تحت يافطة " الإصلاحيين الوسطيين " وحازوا خلالها ثقة قطاعات مجتمعية واسعة من مختلف مناطق البلاد والتي لم يتح للكثير منها – جراء المنع السياسي – فرصة التعرف أكثر علي المشروع السياسي و المجتمعي للإصلاحيين الوسطيين إذا ما استثنينا فترة الحملات الانتخابية القصيرة ، هذا الانتشار الجماهيري الأفقي للحزب لم يكن ليحجب امتدادات أخري ذات طبيعة رأسية أو عمودية هذه المرة في صفوف " الانتليجسيا " إذا ما أخذنا في الاعتبار الحضور القوي له داخل الأطر النقابية ومنظمات المجتمع المدني الحقوقي و الخيري كمؤشر دال في هذا النطاق ، هذه المعطيات السياسية والمجتمعية الشاهدة كانت ماثلة وبقوة في مخيلة " صاحب القرار السياسي الأول " وهو يمنح الحزب الاعتماد للعمل السياسي رغم لعبة " المراغبة والمراهبة " التي حاولت بعض القوي المتربصة " بالإسلاميين " لعبها بخبث مع الرئيس : سيد محمد ولد الشيخ عبد الله كما عادت للعبها مجددا اليوم بذات الأدوات ونفس الأساليب وهو ما رفض  المعني الرضوخ له بالطبع لبعد نظره وإدراكه لحاجة البلد لكل مكوناته دون إقصاء أو إساءة نفوذ ، ولعل ما نسيه الرئيس في هذا المقام هو أن ورثة " الإصلاحيين الوسطيين " لم يصوتوا لصالحه وفضلوا دعم غريمه : احمد ولد داداه خلال شوط الإعادة الحاسم رغم الضغوط الكثيرة التي مارسها عليهم المجلس العسكري من اجل مؤازته غير أن الرجل كان شهما ومتسامحا فتسامي علي التشفي و الانتقام من خصوم الأمس رجاء غد أفضل قد يسع الناس جميعا .

 

من الجماعة إلي الحزب :

 

تابع بعض المراقبين بحذر مسار التحول السياسي للفصيل الإسلامي الأبرز بالبلد من مرحلة الجماعة الدعوية التربوية والتي ظلت تتعاطى مع الشأن العام في أغلب الأحيان بخطاب سياسي مشبوب العاطفة دينيا إلي مرحلة الحزب السياسي الواقعي الذي أصبح يعتبر السياسة " جهاده المدني " ويقبل بالديمقراطية خيارا لتنظيم الحياة السياسية و التداول السلمي علي السلطة ولا يري تعارضا جوهريا بينها وبين روح الشورى الإسلامية وتطبيقاتها في المرحلة الراشدة جاء ذلك التحول سلسا وسريعا وعكس قدْرًا كبيرا من الانسجام الفكري و الانضباط داخل هياكل الجماعة – الحزب  فلم تعرف مرحلة الانتقال انشقاقات أو صراع مراكز قوى علي المواقع القيادية المتصدرة كما يحصل في بعض الحالات المشابهة فيما صاحبت مسار التحول أسئلة " الإيديولوجيا " التقليدية المتعلقة بالهوية الفكرية و الانتساب المدرسي ووجهة الخط السياسي للحزب الوليد فهل كان الحزب الجديد حركة دينية محضة تعبر عن نفسها في شكل مواقف سياسية أم هو تعبير سياسي محض بمسحة دينية ؟ هل هو تجمع لجماعة سياسية نفعية بمسوح دينية أم هو حزب مدني لمواطنين متدينين ...

 

لقد حسم تواصل ومنذ البداية جدلية الانتماء وهوية الوجهة حازًا دون تردد علي مفصل المرجعية الإسلامية وهو التنصيص الذي يبرره رئيس الحزب و الناطق باسمه : محمد جميل بن منصور بالقول : " وقد يبدو إبراز المرجعية الإسلامية في بلد ينعت جمهوريته بالإسلامية ويعتبر أحكام الدين الإسلامي المصدر الوحيد للقانون ويصرح بأن دين الشعب و الدولة هو الإسلام تحصيل حاصل وحديثا في المُسَلم به ... ولكنه ليس كذلك إنه وضوح في النسب الفكري وتأكيد علي اختيار وطني ضمّنه الناس في أهم وثيقة قانونية للبلاد (الدستور) وتعزيز لهذا الاختيار وإعلان صريح لتبنيه و الاستعداد للدفاع عنه علي كل الجبهات الفكرية و السياسية " .

 

والمرجعية لم تتحول في يد " تواصل " إلي " حق الهي مكتسب " يضفي صبغة القدسية علي مواقفه و اجتهاداته السياسية فيعصمها من الخطإ ويزكيها فوق النقد ولم يسع إلي توظيفها كسلاح ايدولوجي لشيطنة خصومه ووصمهم " بالهرطقة السياسية " ولم يوزع عليهم صكوك حرمان بابوية كما لم يصك فتاوى في تزكية مرشحيه وصكوك غفران إلهي لمن صوتوا لصالحهم .

 

لقد نظر " تواصل دوما إلي المرجعية باعتبارها حقيقة كلية " لا يمكن لأي كان ادعاء تجييرها بالمطلق وهي دون ذلك في عرفه " مشاع مشترك " يتسامي عن أن يستأثر به هذا الفصيل أو ذاك مهما كان منطلقه وسند شرعيته أحرى أن يمتلكها أو يسعى لتوظيفها أو يتلاعب بها فمن يتلاعبون حقا بالإسلام ويجهدون لتوظيفه لأغراض سياسية آنية هي ذات الأنظمة الشمولية التي حولته إلي شعارات تعبوية تٌخَدِّمُها بدل خدمتها و استنسخت منها إسلاما مشوها تابعا يمثله معممون من أصحاب اللحى السلطانية يعظون الناس بزبور السمع والطاعة لمهدي منتظر لا يسعهم خلافه .

 

لقد تجاوز الخطاب السياسي لتواصل – مرحلة الانفعال بالواقع و الاشتباك الفكري مع الأنظمة المتأسلمة حول أحقية " التمثيل الرسمي للإسلام " في معارك مفتوحة بلا قواعد أو تقاليد يستبيح كل طرف فيها ساحة الآخر عبر توظيف ما يمتلك من أسلحة ضرب ايدولوجي إلي ابعد مدى – إلي التفاعل الواعي معه و محاولة التأثير الإيجابي فيه عبر بناء علاقة جدلية خلاَّقة تتجاوز المقولات الاختزالية ذات الطابع المطلق و المحلق و التي استمرأتها بعض القوي و التيارات ( و التي بعضها إسلامية ) في قضايا هي بطبيعتها نسبية و اجتهادية فلا ريب أن التعامل مع المطلق مريح للنفس مطمئن للضمير في سياق الخطاب النظري بين المتحدث و المتلقي ولكن المحك الحقيقي الذي يمتحن جدية البرامج وصدقية وعودها يبقي في الترجل إلي الميدان و التعامل مع الواقع بمشاكله و تعقيداته وتفكيك مفرداته سبيلاً إلي اكتشاف الحلول وطرح البدائل عبر حشد الإمكانات و تفجير الطاقات وهي بالأساس مهمة السلطة الممسكة بزمام الأمور في الوقت الراهن لا تواصل فليس مطلوبا من هذا الأخير وهو يجلس علي مقاعد المعارضة تقديم وصفات علاجية لمشكلات اقتصادية و اجتماعية أفرزتها الممارسات الخاطئة و السياسات العرجاء للسلطة الحاكمة أو غيرها رغم سعي كوادره التي تدير عددًا من المجالس البلدية المحلية لتدبيرها وفق حكامة رشيدة تقرب الخدمة من المواطن و تصون المال العام و تسوي بين الناس في القسمة بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية و الجهوية و الفئوية ...     

   

الحَلُّ قد لا يكون بالضرورة في الحَلِّ

 

قد يظن البعض ممن استطاب الجلوس علي المقاعد الوثيرة فإذا ما غادرها لم يجاوز ظل الشجرة وقد ضاقت بهم باحة القصر بما رحبت بكثرة ما باعوا من وعود وخرقوا من عهود أن حلَّ المشكلات و دفع المظلمات هو في حل تواصل و إزاحته من جغرافيا السياسة و دائرة التأثير بجرة قلم وهي حلول غريبة لا تتسق مع أي منطق مقبول سوى منطق الأنظمة الشمولية الفاشلة التي تند عن ذات العقلية و المسلك من ردات الفعل غير المحسوبة في التعاطي مع الخصوم المنافسين حين يشتد خناق الأزمات من حولها وتزداد عزلتها الداخلية فتستبد بها الباطنة الكائدة و تستولي علي بعض قرارها فتدس لها السم في العسل و تغريها بخصومها نكاية بها وتوريطا لها في مزالق الفتن وورطات الشقاق ، فقد يستسهل المكلف بمهمة الآن مهمة حل تواصل و حرمان قادته من العمل السياسي ردحا من الزمن لكن لجم غضبة الجماهير المنتفضة ضد تصفية الحسابات السياسية و احتساب ردة فعلها حين ذاك علي الظلم ستكون مهمة في غاية الصعوبة علي المكلف بها فمتى يتعقل الحكام حين تسفه البطانة بطرًا للحق و غمطا للناس قبل فوات الأوان .

 

تواصل واستحقاقات المرحلة

 

ما من سبيل أمام تواصل القريب  بطبعه من  نبض الجماهير سوي الانحياز إلي صفوفها  وتبني مطالبها المشروعة في الإصلاح الشامل في لحظة سياسية لا تحتمل الكثير من التأويل  وهي الجماهير الواعية التي مجت الخطابات  الشعبوية المحنطة للسلطة ووعودها الجوفاء ببناء " مدينة الفقراء الفاضلة " والتي  تحولت  مع الوقت إلي ما يشبه  " حكا يا أمنيات طيبة " اصبحت مثار تندر الناس في مجالسها الخاصة أكثر من كونها برامج جادة ومدروسة تستند إلي حقائق مالية ومعطيات اقتصادية دقيقة علاوة علي الكادر البشري الكفؤ والنظيف  الأيدي الذي ستوكل إليه مهمة انجاز البرامج وتجسيدها واقعا معيشا .

 

لقد غاب عن النظام وهو يرفع شعارات أكبر من قدراته " أن السياسة هي فن الممكن " فقد يكون من السهل في سياق التنافس الانتخابي دغدغة مشاعر الجماهير المتشوفة لمخلص منتظر وبيعها آمال زائفة في " بازار " المزايدات  الانتخابية والنفث لها باستمرار في عقد الفساد وتفريعاته المختلفة  حتى إذا انحسرت  بها زمنا  إذا بها تفيق علي حقيقة أن النظام لا يمتلك أي رأسمال حقيقي من مصداقية  وعود أو خبرة سياسية تؤهله لتدبير المرحلة بمفرده , وتعويضا عن فشله في إدارة أهم  الملفات الداخلية الأساسية في مجالات الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي (الحوار, السلم الأهلي , مكافحة الفقر والبطالة  ..,لجم ارتفاع الأسعار... ) راح يصدر أزماته  للخارج ويبحث عن مشجب لتعليقها عليه فسعي لإنعاش الحوار السياسي المحتضر سريريا بتخوين محاوريه سياسيا ودمغهم بمعاداة الوطن تمهيدا لاستباحة ساحتهم سياسيا وقانونيا وهو ما تكشفت نذره سريعا في التصريحات المهوشة لمكلف بمهمة بالقصر حين لَوَّحَ بضرورة حل أحد أحزاب المعارضة  وسجن قيادي بحزب آخر منها .      

 

أما السلم المجتمعي : فكان آخر ما يحتاجه أمنه واستقراره هو الغمز تصريحا أو تلميحا إلي وضعية الولادات الطبيعية الخاصة بإحدى  مكوناته الأساسية وتصنيف ذلك في خانة الممارسات العشوائية الخاطئة وهو توصيف مرفوض تأباه الفطرة ويمجه الذوق السليم  وأما وصفة النظام الناجزة لإنعاش الاقتصاد وضخ المزيد من الأموال في دورته الراكدة فتكون برفع الوعاء الضريبي والتعسف في الجباية في تجاهل لقاعدة ذهبية معروفة عند الاقتصاديين وهي أن " المزيد من الضرائب يقتل الضرائب " وفي المحصلة يبقي المتضرر الأكبر هو جيب المواطن البسيط الذي يتحمل وحده أعباء تلك الزيادات المتكررة دون دعم من الدولة يذكر للأسعار أو حماية للمواد الأساسية من جشع و تلاعب رجال الأعمال المستقوين بحماية أصحاب مراكز النفوذ لمصالحهم التي لا تتساوق بالضرورة مع مصالح الغالبية العظمي من الفقراء ومحدودي الدخول .

 

لقد بات الإصلاح الشامل مطلبا ملحا اليوم و أكثر من أي وقت مضى لا في حسابات تواصل فحسب وإنما بحسبان قطاعات عريضة من فئات المجتمع و لم يعد مقبولا من النظام مواجهة مطالبه بخطابات ديماغوجية مفوّتة تستخف بعقول المواطنين وتقصي الشركاء السياسيين وتدير البلد بمنطق " ما أريكم إلا ما أرى " فيما بات الوطن مستهدفا في سلمه الأهلي قبل الاقتصادي و الأمني بتعدد الرايات و كثرة المضاربين بها في سوق  "الفتنة الطائفية و الثقافية" من قوى مشبوهة لا يجهلها إلا المكلف بمهمة الذي راح يكيل التهم ويوزع الأدوار ويبقى للبرءاء العيب ليجعل من تواصل طرفا في إيجاد المشكل القائم و ليس جزءًا من الحل المفترض له وهو مسعى فاشل علي أي حال فلن يكون تواصل أو أي من منظماته أو مكوناته جزءًا من أي مشروع طائفي أو اثني ولن يستند أو يستقوي بالطرح الطائفي أو يتعاطى مفرداته أو ينهل شرعيته السياسية أو المجتمعية منه كما فعل ويفعل البعض فقد تأسس علي كل يناقض ذلك الطرح  ويضاده مركزيا فهو لم يكن يوما حزب طائفة أو فئة أو ممثلا لمصالح طبقة أو حتى أرومة انه بحق حزب كل الموريتانيين علي اختلاف فئاتهم و طوائفهم و طبقاتهم و جهاتهم ووجهاتهم فالوحدة الوطنية احدى أهم منطلقاته فإذا جمع الجموع أو حشد الحشود فلن تكون خلف راية غير رايتها أو غاية غير عزتها فكيف يتهم اليوم بالعمل لضربها و السعي للنيل منها وهو من التشكيلات الحزبية القليلة التي تمتلك رؤية علمية عملية مدونة عن الوحدة الوطنية قدمتها للطيف السياسي في حفل بهيج بدار الشباب القديمة قبل مدة و نالت استحسان الجميع و تقديره إلا صاحب المهمة والمكلف بها وقديما تَنَدّر العرب بالمثل " قال المريب خذوني " فمن يتآمر ضد من ؟ و من ينشر غسيله بساحة من ؟  

 

أكناتة ولد النقرة