الشنقيطي: أتوقع موجات من الربيع العربي خلال عامين أو ثلاثة (مقابلة)

توقع أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان بجامعة حمد بن خليفة في قطر، محمد مختار الشنقيطي، اندلاع موجة جديدة من موجات الربيع العربي خلال عام أو عامين.

ولفت الشنقيطي في مقابلة مع صحيفة "عربي 21"، إلى أن الظروف تتهيأ لتلك الموجة المرتقبة يوما بعد الآخر، والشعوب العربية في حالة تحفز حاليا، مؤكدا أن هذه الموجة ستكون أكثر نضجا ووعيا بما وصفه باللعبة الإقليمية والدولية.

ورفض الشنقيطي بشدة في دعوات البعض للحركة الإسلامية بالابتعاد عن العمل السياسي والتراجع للوراء، مؤكدا أنها لو استجابت لتلك المطالب فستكون قد حكمت على نفسها بالانتحار، مضيفا أن الخيار الوحيد أمامها هو الارتباط بحركة الشعوب الساعية إلى الحرية والارتباط بمسار الثورات والصبر عليها وطول النفس.

وأوضح "الشنقيطي" أن القوة التي ستحسم الثورات العربية وتحقق نجاحها في النهاية هي نضج الشعوب، وتضعضُع الثورة المضادة وإفلاسها وعجزها عن تقديم أي بديل مُرضٍ للشعوب، إضافة إلى الثمن الذي تدفعه القوى الإقليمية والدولية الداعمة للثورة المضادة وتوصلها إلى أن هذا المسار مفلس، مؤكدا أن العامل الأهم والحاسم هو إصرار الشعوب على نيل حريتها وكرامتها.

نص المقابلة:

هناك من يطالب بابتعاد الحركة الإسلامية عن العمل السياسي واتخاذ خطوات للوراء في ظل الأوضاع الراهنة.. فهل تتفق مع هذه الدعوات؟ 

إذا ابتعدت الحركة الإسلامية عن الثورات والعمل السياسي فستحكم على نفسها بالانتحار، فمستقبل حركات التغيير والإصلاح هو أن ترتبط بالمسار التاريخي السائد في المجتمع وبالمزاج الشعبي، والشعوب خرجت تطالب الحرية والكرامة. ومستقبل الحركات الإسلامية هو بالارتباط بهذا المسار وكل تخلف عنه أو تناقض معه هو انتحار سياسي بلا شك.

لماذا فشل مشروع مشاركة الإسلاميين في السلطة؟

لأن شركاءهم العلمانيين اتسموا بالأنانية السياسية، فمشاركة الإسلاميين في الحكم كانت متعثرة دائما لرفض الأطراف الأخرى هذه المشاركة، حتى الإسلاميون الذين انُتخبوا انتخابا نزيها وقبلوا المشاركة مع الآخرين –مثل حركة النهضة التونسية- اضطروا في النهاية للتنازل للآخرين، من أجل المحافظة على المسار العام للديمقراطية.

وهذا السؤال يجب توجيهه لغير الإسلاميين. أما الفشل فهو لا يرجع للحركة الإسلامية، بل للأنانية السياسية لدى الأطراف الأخرى التي هي حريصة على عدم مشاركة الإسلاميين في السلطة بأي شكل من الأشكال وعدم وصولهم للسلطة حتى لو بحرمان الشعب كله من الحرية.

ما هي الخيارات المتاحة أمام الحركة الإسلامية؟

الخيار الوحيد هو الارتباط بحركة الشعوب الساعية إلى الحرية، والارتباط بمسار الثورات والصبر عليها وطول النفس، فنحن نعيش في مرحلة فشلت فيها الثورة المضادة فشلا ذريعا، لكن الثورة لم تنتصر بعد، وعلى الحركة الإسلامية أن تسعى لتغيير هذه المعادلة لصالح الثورة.

فما نشهده هي حالة تأرجح فشلت فيها الثورة المضادة في تقديم أي بديل مقنع للشعوب لترضى به وبالوضع القائم، لكن الثورة لم تنجح بعد، بسبب اختلال ميزان القوى وضعف الخبرة، وواجب الحركة الإسلامية هو مساعدة الشعوب على تحسين الخبرة والأداء والثبات على مسار الثورة حتى تتحقق نتائجها وأهدافها.

لماذا دائما ما تلقي الحركة الإسلامية فشلها على الحرب التي تشن ضدها وتبرر ذلك بأنها تعيش في محنة وابتلاء، بل إنها أحيانا تدعو للتعايش والتكيف مع تلك المحن دون تفكير في الخروج منها؟ 

قضية المحنة التي تعيشها الحركة الإسلامية هي حقيقة واقعة وليست خيالا يتعلل به الإسلاميون..
فماذا نسمي وجود خمسين ألف سجين سياسي في مصر بعد انقلاب السيسي إن لم يكن محنة؟ 
وماذا نسمي مذبحة رابعة والنهضة إن لم تكن محنة؟ فهناك موقف دولي معادٍ لكل ما يمت للإسلام بصلة، وهناك موقف دولي داعم للحرية في كل بلدان العالم إلا الدول الإسلامية، وداعم لحرية كل القوى السياسية إلا القوى الإسلامية.

وهذا موقف ديني وأيدولوجي وفكري من الإسلام، والحركة الإسلامية تدفع ثمن هذه العداوة بسبب تشبثها بالإسلام، ومن يعادي الإسلام بالطبع سيظل معاديا للحركة الإسلامية إلى أن تقف الأمة على قدميها وتنتصر على عدوها وتحقق حريتها.

والمستبدون يدركون أن الحركة الإسلامية هي الرافعة للثورات، وهي عصب التحول السياسي في المنطقة، لذلك يسعون إلى استئصالها. فالمحنة حقيقة وليست خيالا، وليس أمام الحركة الإسلامية سوى المصابرة والمنازلة حتى يحق الحق ويزهق الباطل.

البعض يرى أن الحركة الإسلامية أخطأت بربط مصيرها بمصير ثورات الربيع العربي.. ما تعليقك؟ 

على العكس، لقد ربحت على المستوى القيَمي، واستثمرت في رصيدها لدى وعي الجماهير حينما انحازت للحريات وللشعوب وللمظلومين، فهذه مواقف مبدئية ستربح بها على المدى الطويل. ورغم أنها خسرت أمنيا وسياسيا، إلا أن الخسائر من هذا النوع يمكن تعويضها، أما الخسائر الأخلاقية في الرصيد لدى وجدان وعقل الأمة فهي التي لا تعوَّض إن حدثت. 

ونستطيع القول إنه رغم أن أخطاء الحركة الإسلامية التكتيكية فادحة الثمن، إلا أن خيارها في الانحياز لثورات الرييع العربي هو الخيار الاستراتيجي الصحيح، وهو يعوض عن أي خسارة تكتيكية.

الأمم المتحدة قالت إن "الربيع العربي" كبد المنطقة خسائر أكثر من 614 مليار دولار منذ عام 2011. فضلا عن آلاف الأرواح وبشاعة الانتهاكات المختلفة.. فهل كانت أضرار الثورات أكثر من نفعها؟

لو قدرت الأمم المتحدة الخسائر الفادحة الناجمة عن الاستبداد بالنسبة للشعوب ما قالت إن الربيع العربي قد كلف شيئا. كما أن الربيع العربي -والثورات الجادة عموما- معركة وجودية لا تقاس بالثمن، وليس لها ثمن من الأساس، فإما أن يعيش الناس بكرامة أو يموتوا بكرامة، وهذا هو منطق الثورات، ولكن تبقى ضريبة الاستبداد أكبر بكثير من ضريبة الحرية مهما قالت الأمم المتحدة.

لكن "الربيع العربي" فشل في تحقيق أهدافه حتى الآن ؟

الربيع العربي لم يفشل في تحقيق أهدافه، وكل محاولات اغتياله فاشلة حتى الآن، لأنها لم تقدم للشعوب بديلا عن واقعها المزري، بل جاءت ببدائل أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل اندلاع الموجة الأولى من الربيع العربي، وخير مثال على ذلك ما جرى بمصر.

لذلك، لا يمكن القول إن الربيع العربي فشل، لكن أمامه عوائق كثيرة وكبيرة، وهذه العوائق رفعت تكلفة التضحيات وأجّلت النصر، إلا أنه يمكن التغلب عليها بالإيمان والصبر والتصميم والتمسك بالمبادئ والقيم.

وثورات الربيع العربي من صنف الثورات الاجتماعية العميقة التي تنجح دائما في نهاية المطاف، مهما تأخر موعد نجاحها وبلوغها لأهدافها، فهي ثورات ذات جذور اجتماعية وثقافية عميقة، تمنع عودة الأوضاع لما كانت عليه سابقا، فهي ليست "موجة" تحول ديمقراطي كالتي مرت بها أوروبا أو أمريكا اللاتينية في الربع الأخير من القرن الماضي، بل هي أقرب ما يكون إلى الثورات الكبرى التي شهدتها أوروبا منذ قرنين.

على عكس ما يرى الكثيرون، تقول إن الثورة المضادة فشلت.. فما هي ملامح هذا الفشل؟

الثورة المضادة لم تقدم أي شيء للشعوب، بل رجعت بها إلى مرحلة أسوأ بكثير من مرحلة ما قبل الثورات، فضلا عن مرحلة الثورة، والدول العربية التي تصدرت الثورة المضادة تمويلا وتخطيطا هي أضعف الدول العربية اليوم وضعا، وأكثرها انكشافا استراتيجيا. حتى إن بعض الدول الغربية التي ساندت الثورة المضادة دفعت الثمن هي الأخرى، ورغم أن أمريكا وروسيا لم يدفعا الثمن حتى الآن، إلا أن الجميع سيناله الضرر وسيدفع الثمن، عاجلا أم آجلا.

ما هي المسارات التي يسير فيها "الربيع العربي"؟

من استقراء مسار الثورات عامة عبر التاريخ نجد أن الثورات تسير عبر أحد ثلاثة مسارات:

- الأول هو الإصلاح الوقائي الذي تقوم به السلطة أو جزء منها يتسم بالعقل والحكمة، فيلتق مع شعبه في منتصف الطريق، مثلما حدث بالنسبة للثورة الإنجليزية عام 1688.

- المسار الثاني هو "الانقلابات الديمقراطية"، والتي تتحرك فيها الجيوش تبعا لحركة الجماهير لإزاحة السلطة، دون أن تتقدم للحكم مثل انقلاب البرتغال في السبعينيات.

- والثالث هو المواجهة أو الحرب المفتوحة الشاملة، وهو المسار الأكثر كلفة للجماهير
 وللسلطة وللبلاد، وهو المسار الذى سلكته الثورة الفرنسية.

والربيع العربي سار في المغرب مسار الإصلاح الوقائي، وفي تونس مسار الانقلاب الديمقراطي، وفي سوريا واليمن وليبيا مسار الحرب المفتوحة. وفي كل المسارات تنتصر الشعوب على الحكام، والحرية على الاستبداد.

وكيف ترى مستقبل الثورة المصرية في ظل الضربات القاتلة التي تعرضت لها؟

الثورة المصرية لم تتعرض لضربات قاتلة، فلا يوجد شيء يقتل الثورات أو يجعلها تموت، فالثورات الأصيلة هي حركة عميقة نابعة من وجدان المجتمع، وهي موقف وجودي لا تراجع عنه أو تنازل فيه، ويمكن أن تتعرض الثورة لعوائق وانتكاسات لكنها لا يمكن أن تموت، فقديما قال الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين: "إن الضرب يكسر الزجاج لكنه يبلِّط الحديد"، والثورات العربية هي ثورات حديدية وليست ثورات زجاجية.

والثورة المصرية تسير الآن في مسار الحرب المفتوحة، وهو المسار الذي اختاره السيسي، وأتوقع أن تنتقل لأحد المسارين الآخرين (انقلاب ديمقراطي أو إصلاح وقائي) بسبب فشل السيسي وثورته المضادة في تقديم أي شيء يحفظ كرامة المصريين.

ولكن حتى يحدث ذلك لابد من توفر شروط وتحقيق متطلبات للنجاح، منها: طول النفس بمعنى أن تظل قضية ومبادئ ثورة يناير حية، ومنها الجمع بين الصلابة المبدئية والمرونة التكتيكية، بحيث يكون الثوار المصريون مستعدين لقبول أي مكاسب مرحلية، دون تنازل عن مبادئ الثورة، والاستفادة من وتوظيف خلافات الكبار والقوى الإقليمية عبر تحرك دبلوماسي وسياسي، وتقليل حدة الاستقطاب الأيديولوجي، فالثورات حلف أخلاقي، وليست حلفا أيديولوجيا.

والفشل الاقتصادي للانقلاب في مصر، والذي يتفاقم مع الأيام، سينتج وعيا جماهيريا بفشل مسار الثورة المضادة، فتعود الجماهير لمسار الثورة وتلتف حوله، وكذلك فإن تغير الخارطة الإقليمية عربيا وأوروبيا، عامل مُعين للثورة المصرية.

هل تهيئ الأوضاع الحالية في العالم العربي الأرضية لثورات جديدة؟

نعم، أعتقد أن هناك موجة قادمة من الثورات العربية، والظروف تتهيأ لها يوما بعد الآخر، فقد أفلست الثورة المضادة، وانكشفت الدول التي تزعمتها، ولم تكسب تلك الدول شيئا من الثورة المضادة.

والشعوب كلها في حالة تحفز حاليا، وأي تقدم في بلد من البلدان العربية سيصب في مصلحة الثورة في البلدان الأخرى، لأن الشعوب العربية تتنفس الثقافة السياسية ذاتها.

وأعتقد أن موجة جديدة من موجات الربيع العربي ستندلع خلال عامين أو ثلاثة، وستكون أكثر نضجا، وأشد صلابة، وأوعى باللعبة الإقليمية والدولية، من الموجة الأولى.

هناك من يقول إنه لا توجد ثورة في التاريخ إلا ويتم حسمها في النهاية بقوة ما.. فما هي هذه القوة التي يمكن أن تحسم نجاح الربيع العربي برأيك؟ 

القوة التي ستحسم الثورات العربية وتحقق نجاحها في النهاية هي نضج الشعوب، وتضعضُع الثورة المضادة وإفلاسها وعجزها عن تقديم أي بديل مُرضٍ لهذه الشعوب. 

إضافة إلى الثمن الذي تدفعه القوى الإقليمية والدولية الداعمة للثورة المضادة وتوصلها إلى أن هذا المسار مفلس، هذا كله سيساعد ويمهد الأرض لانتصار الثورات العربية. إلا أن العامل الأهم والحاسم في النهاية هو إصرار الشعوب على نيل حريتها وكرامتها، وأعتقد أن الشعوب مصممة على ذلك ولن ترجع للوراء.

هل تعتقد أن هناك ثمة تخوفات غربية مما تصفه بفشل الثورات المضادة؟

بالفعل، فهناك تخوفات غربية من استمرار الثورات المضادة على ما هي عليه من فشل، لا يتمثل فقط في الهاجس الأمني بانتقال عمليات تستهدف الدول الغربية، بل الهاجس الأكبر هو هاجس الهجرة إلى أوروبا، لما في ذلك من تأثير على تركيبتها الديموغرافية، وهذا يمثل كابوسا لدى الأوروبيين.

أخيرا.. هل الثورات تعرف العمل السياسي والدبلوماسي أم لا؟

الثورات فعل مواجهة وصراع مادي مباشر وحركة جماهيرية ضد السلطة، لكن لا بد لها من أداء سياسي ودبلوماسي، فلا توجد ثورة دون عمل سياسي ودبلوماسي يخدم أهدافها ويبلغ رسالتها للعالمين. والسياسة هي فن تحقيق الممكن وبناء المساحات المشتركة.

ومن أبرز ثورات العالم في النجاح الدبلوماسي هي ثورة التحرير الجزائرية التي حاصرت النظام الفرنسي دوليا، بما في ذلك حصاره في أروقة الأمم المتحدة، حتى أذعن صاغرا لفكرة الانسحاب من الجزائر، بعد احتلال دام 130 عاما. فالنجاح الدبلوماسي الهائل للثورة الجزائرية يجب أن يكون مُلهما لثورات الربيع العربي اليوم.