"أنا الشعب"/ الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

في قصته الجميلة "أنا الشعب" التي قرأناها بنهم في معترك "الستينيات المجنونة" دون أن نتدبّرها كغيرها يومئذ؛ عالج الكاتب المصري الكبير محمد فريد أبو حديد ظاهرة  فئة اجتماعية معينة (هي "طبقة البرجوازية الصغيرة" كما يسميها البعض) تعتقد لمكانها في وسط السلم الاجتماعي، وما تعانيه من ظلم وتهميش وحرمان من هم فوقها "والماء ينساب أمامها زلالا" وما هو ببالغ فاها، وما يعتادها من وسواس الفقر والسقوط إلى الدرك الاجتماعي الأسفل، أنها هي الشعب: فبرضاها، وقلما ترضى لبعد البون بين طموحها وقدراتها، تعتقد أن الشعب راض؛ وبسخطها وهي الساخطة والشاكية والمتبرمة أبدا، تعتقد أن الشعب غاضب. بل على حافة الثورة والعصف بالطغيان. وغالبا ما تصرفت على هواها فلا تدرك الحقيقة إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن تكون قد ألحقت أفدح الأضرار بنفسها وبالشعب الذي تدعي أنها هو.

 

وقد يهون الخطب، لو كانت "الشعب" تستخلص الدروس والعبر من أخطائها وهزائمها عبر مواجهة وتحليل جديين للواقع، ومحاسبة صريحة للنفس يسميها علم الاجتماع النقد والنقد الذاتي. 

ولكن هيهات!

فممثلو فئة "الشعب" الأشاوس الأوفياء لقيمها يظلون يعتقدون أنهم منتصرون أبدا، مهما غرقوا إلى الودجين في وحل الهزيمة والذل، على غرار السيد "آه كي" الشخصية الأسطورية الصينية المشهورة في قصص لوسين، أو على خطى فارس القرون الوسطى المغوار دونكشوت!

ومن أخطر تداعيات هذه الرؤية الوهمية الموغلة في الذاتية للواقع لدى طبقتنا الطفيلية المتذبذبة أنها تدخلها في دياجير الذاتية والأوهام وتبعدها عن نور الحق والمعرفة، فلا تدرك الواقع ولا تعرف نفسها ولا تميز بين العدو والصديق.

لقد عالج الفلاسفة والمفكرون قبل وبعد الكاتب المصري المذكور هذه الظاهرة الاجتماعية بعمق؛ لما تتسم به فئة "الشعب" من حيوية مفيدة إذا ما ضبطت ووجهت توجيها صحيحا وتم التحكم فيها ودمجها في مسار الحراك الاجتماعي، وضارة جدا إذا ما ترك لها الحبل على الغارب فانحرفت إلى يسارية وفوضوية وإرهاب، أو تصدرت حراك المجتمع في فترات غليانه فقادته إلى الهزيمة. وقد رصدوا  لها خمس صفات جوهرية هي: الذاتية المفرطة، والانعزالية المميتة، والتذبذب الشديد، والتطرف في القول، والجبن في الفعل؛ خاصة عندما يحمى وطيس الصراع الاجتماعي.

ويجمع المؤرخون على أن تصدر هذه الفئة للمشهد السياسي في العالم العربي والإسلامي خلال قرن من الزمن أو يزيد، هو أكبر كارثة حلت بالعرب والمسلمين (البعث، القوميون العرب، القوميون السوريون، الناصريون، الشيوعيون، الإخوان المسلمون؛  فكلهم - أو جلهم- ينتمي مخلصا إلى تلك الفصيلة الاجتماعية). فهي:

* مسؤولة عن هزيمة العرب سنة 1967،

* ومسؤولة عن تحويل نصرهم العظيم في أكتوبر إلى هزيمة،

* ومسؤولة عن الفتنة بين العرب والمسلمين في العراق وإيران، والحرب المدمرة بينهم التي تمنى الصهيوني كيسنجر أن لا يكون فيها منتصر.

* ومسؤولة عن الكارثة التي حلت بالعرب جراء حماقة غزو واحتلال الكويت.

* ومسؤولة في بلادنا عن نكبة العاشر يوليو والتيه الذي نجم عنها لثلاثين سنة انهارت فيها الدولة وهلك الحرث والنسل، واغتيلت الوحدة الوطنية، وتبدلت الأرض غير الأرض والناس غير الناس.

* ومسؤولة عن ضياع ودمار العراق وسوريا وليبيا واليمن. لكونها من شجع وغذى التمرد المسلح، ومن قاد الإرهاب، ومن شكل جسرا وطابورا خامسا لعبور أعداء الأمة إلى بيضتها، ومن تتألف منهم داعش والنصرة ومثيلاتهما فكرا وتنظيما وتأطيرا. 

ولكن الطامة الكبرى هي أن بعض ممثلي هذه الفئة ما يزالون عالقين على خشبة المسرح السياسي رغم احتراقه من حولهم، وما جنوه من دماء ودمار، يروجون بضاعتهم البائرة في أسواق النخاسة كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا.. ناسين - أو متناسين- أن الشعوب الأصيلة لديها ذاكرة لا تنسى، تختزن فيها وتختزل حصيلة عملها إلى يوم الدين.

فمتى ستدرك إذن هذه الفئة من المجتمع حقيقتها، وتتذكر تاريخها، وتعرف حدودها، وتتطبع بقليل من الواقعية والتواضع والإيثار حتى تنسجم مع شعوبها فلا تقف حجر عثرة في وجهها، وتعلم أن مصالح الشعوب وكلماتها هي العليا؟