إعادة التأسيس على شرعية المقاومة\ محمد اسحاق الكنتي

لكل أمة، في تاريخها لحظات مفصلية، تستأنف فيها مسيرتها الحافلة على قواعد جديدة تناسب المرحلة، وتجسر الماضي بالمستقبل في تناغم يجبر الانكسارات ويحقق وحدة تصور قادرة على تنفيذ مشروع اجتماعي تذوب فيه الفوارق وتنجز فيه العدالة.

وأمتنا اليوم نحسبها في إحدى هذه اللحظات من تاريخها المجيد، تنفض الغبار عن ماضيها التليد لتصنع مستقبلا يصلها به دون أن يشدها إليها. في هذه اللحظة التاريخية نعيد التفكير في الأسس التي ينبغي أن تقام عليها تنمية شاملة تحذف منها أشكال الفقر الهندسية، ومعالمه العمرانية، وهجراته الموسمية إلى المدن الكبرى يطوقها بأحزمة الفقر الشبيهة حد التطابق بالأحزمة الناسفة.

إن لرؤية المجالس الجهوية أبعادا متكاملة؛ فهي تهدف إلى إعادة توزيع الثروة الوطنية بطريقة أكثر عدلا، بحيث تصل إلى المواطن في مدفن أجداده وموئل أحفاده، وتضمن له المشاركة الفاعلة في العملية السياسية من خلال الديمقراطية الحقة التي تتيح للناخبين تقييم أداء منتخبيهم لمكافأتهم على حسن الأداء، ومعاقبتهم على سوئه.

كما تتيح المجالس الجهوية إقامة أقطاب تنموية، ومرونة في إجراءات الصرف، وشفافية في الجباية، ورقابة شعبية فاعلة على الإدارة المحلية. ينضاف إلى هذه الأبعاد بعد أمني لا يقل أهمية من خلال تثبيت المواطنين في مناطقهم لإبعاد عصابات التهريب والجريمة المنظمة، والمجموعات الإرهابية. كل هذه الفوائد التي تعود على المواطن مباشرة يتم تغييبها لصالح مماحكات حول أرقام، وكلمات، وألوان تتناقض الخطابات حولها بين التجريم والقداسة، والطيرة والتحريم، كل ذلك في تجاهل تام لما تتأسس عليه الأمم من مقومات مادية وقيم معنوية…

فقد استقر، في علم الاجتماع السياسي أنه لا بد لكل أمة من “أساطير مؤسسة” تقوم عليها لحمة أفرادها وجماعاتها. بل إن لكل حقبة من تاريخ البشرية أساطيرها المؤسسة؛ وهكذا، فإن الأساطير المؤسسة للقرن العشرين تمثلت في التقدم، والإنسانية، والعلم… وطبقا لهذا التحليل، فإن الأسطورة المؤسسة للجمهورية الموريتانية الأولى، هي أسطورة الاستقلال، القائمة على شرعية الاستعمار. فقد كان الهاجس الأول لبناة الدولة الموريتانية، رحم الله الموتى منهم، وبارك في أعمار الأحياء، هو تحقيق استقلال الجمهورية الإسلامية الموريتانية. ولم تكن هناك إمكانية لإنجاز ذلك الاستقلال إلا بالاعتماد على شرعية الاستعمار التي لا تتجاوز في التاريخ سنة 1905، وتتقلص في الجغرافيا ضمن الخرائط العشوائية لمستعمرات غرب إفريقيا الفرنسية. تلك الخرائط التي تتجاهل الوقائع الاجتماعية، وتجهل التاريخ الثقافي والحضاري للمنطقة، لكن الرعيل الأول استمسك بها ليضمن عدم المساس “بالحدود الموروثة عن الاستعمار”.
لقد تم السكوت عن التاريخ، ما قبل 1905، فأهملت إمبراطورية غانا، وسرقت دولة المرابطين التي أبقت الأندلس في أيدي المسلمين مدة خمسة قرون إضافية. وتقاسم الجيران تراثنا فأغاروا على أعلامنا ينسبونهم إليهم، مثل الفوتي، والشيخ سيد المختار الكنتي، والشيخ ماء العينين، وبقي الحضرمي مدفونا بيننا لا ذكره ينشر ولا قبره يزار. أما الفاتح الكبير أبو بكر بن عامر فقد بزه يوسف بن تاشفين فأخمد ذكره، وظل قبره متجاهلا إلى أن زاره فخامة رئيس الجمهورية يحيي بتلك الزيارة بعض أمجادنا المنسية… أصبحنا مثل التي قال فيها الشاعر:
ماضيك لا أنوي إثارته***حسبي بأنك هاهنا الآنا.. دولة مستقلة.. خرجت من التاريخ بلا هوية… ماضيها واو عمرو.. وحاضرها همزة وصل… ومستقبلها متروك للإرادة الاستعمارية…
لقد استنفدت دولة الاستقلال أغراضها؛ فقد حقق آباؤها المؤسسون هدفهم الرئيس: الاعتراف الدولي