أنهى الرئيس الموريتانى محمد ولد عبد العزيز حالة الترقب التى عاشها الشارع السياسى بموريتانيا منذ إسقاط التعديلات الدستورية داخل مجلس الشيوخ، وقرر إعادة تدوير الحكومة من أجل إخراج الوزير الأمين العام للرئاسة مولاي ولد محمد لغظف فى انتظار قرار آخر ، قد يحمل الجديد للنخبة السياسية المتطلعة لتغيير واجهة المشهد القائم بعد إقرار التعديل عبر الاستفتاء.
قرار حمل الكثير من الرسائل، ومهد لتغييرات أخرى قد تطال العديد من رموز الإدارة والأغلبية، بعد أن تعالت أصوات الرفض من داخل الأغلبية الداعمة للرجل وتعذرت مساعى الرئاسة الرامية إلى إشراك المعارضة المحاورة فى الحراك الجارى من أجل مشهد مختلف عما عاشته البلاد خلال الأشهر الأخيرة.
ولعل أبرز الرسائل التى حملها التعديل هي :
وقف منطق التسامح مع القوى المناوئة للتعديل الدستورى مهما كانت الدوائر الموجودة فيها، وإنهاء حالة الشك التى أصابت البعض بارتباك شديد، وهو يرى رموزا فى الأغلبية ومقربين جدا من صناع القرار فيها ينشطون علنا دون وجل أو تردد لإسقاط مشروع التعديل الدستورى، بل إن البعض أظهر رفضا أقوى وأكثر تأثيرا مما أظهرته المعارضة الموريتانية خلال فترتها الأخيرة.
وقد كان من الواضح أن التضحية بالوزير الأمين العام للرئاسة مولاي ولد محمد لغظف أمر لابد منه، فثلاثة من ممن يحسبون عليه فى الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ عليه ينشطون فى الطرف المناوئ للرئيس وأطروحته السياسية، وأحد أشهر العلماء المقربين منه ومستشاره لبضع سنين يفتى بعدم جواز المس بالعلم والنشيد ويحذر الرئيس من مخاطر جمة إذا نفذ وعده بتمرير التعديل الدستورى.
كما أن المعسكر الرافض لحل مجلس الشيوخ الموريتانى هو المعسكر الذى تحالف معه مولاي ولد محمد لغظف سياسيا وإعلاميا طيلة فترة حكمه للوزارة الأولى، ولا تزال أواصر التعاون قائمة مع بعض رموزه، كما يقول مقربون من الرئيس محمد ولد عبد العزيز فى أكثر من مجلس، مستغربين كيف يجمع الوزير الأمين العام بين شلة مناهضة للتعديل الدستورى، والعلاقة برئيس يعتبر معارضى التعديل ثلة من المحبطين غير المهتمين بمصالح البلد.
(2) إنهاء صراع الأجنحة داخل الأغلبية الداعمة للرئيس : حيث شكل القرار آخر مسمار فى نعس التحالف الداعم للوزير الأول السابق مولاي ولد محمد لغظف داخل الحكومة، بعد أن فشلت مساعى الصلح التى قادها رئيس الحزب الحاكم سيدى محمد ولد محم بين مولاي وخليفته، ولم تنجح توجيهات الرئيس فى ردم الهوة القائمة، بعدما تحولت الاجتماعات المشتركة إلى فرصة لالتقاط الصور وأكل مالذ وطاب، دون نقاش للأمور العامة بشكل جوهرى أو تجاوز للخلاف الذى عطل العمل الحكومى وأربك كبار الفاعلين فى الأغلبية.
ولعل رفض الوزير الأمين العام للرئاسة سابقا فكرة القافلة المشتركة دعما للتعديلات الدستورية هي القشة التى قسمت ظهر البعير، حيث أعتذر بوعكة صحية ألمت به ( قال بعض أصحابه إنها مفتلعة للخروج من الحرج)، ثم أعتذر فى النهاية تاركا الوزير الأول يحي ولد حدمين يواجه الواقع بمفرده، مع تحريض وحملة مقاطعة نشطة كشفت تقارير الدرك والشرطة بعض جوانبها، وتباهى بها – بفعل الغباء السياسى - بعض المحسوبين سياسيا وإعلاميا على الرجل طيلة زيارة الوزير الأول الأخيرة للحوضين ولعصابه، بغية الإضرار بالأخير وإحباط مساعيه الرامية لحشد التعبئة للتعديلات الدستورية وإظهاره بمظهر المعزول من نخبة المنطقة والوجهاء الفاعلين فيها.
(3) تهيئة المسرح لما بعد التعديل الدستورى : لكن الرسائل لم تقتصر على طمأنة الوزير الأول يحي ولد حدمين وبعض أنصاره الحالمين بمزيد من الاستقرار فى الحكم والتأثير فى مسار الحياة السياسية، بل حملت رسالة أخرى جد مزعجة للبعض، من خلال "الترقية " المدروسة للضابط البحرى والوزير سيدنا عالى ولد محمد خونه.
فالرجل الذى تم تعيينه كوزير للوظيفة العمومية بعد انشقاقه عن الحزب الحاكم والترشيح من حزب الكرامة، عين وزيرا للتجهيز والنقل بعدها بأشهر، ثم وزيرا أمينا عاما للرئاسة خلفا للوزير المقال مولاي ولد محمد لغظف.
ويشكل الأمر رسالة إيجابية لسكان "أمرج" وهي من أكثر المقاطعات داخل الحوض كثافة سكانية، ورسالة تحييد مدروسة لبعض الأطراف الأخرى ذات الوزن السياسى بالمنطقة. مع تعامل تبدو السياسة حاضرة فيه بقوة، فالوزير الأول الحالى منح تفويضا مطلقا قبل التعديل الدستورى بتصفية أبرز معارضيه داخل التشكلة الحكومية (مولاي ولد محمد لغظف) وتراجع نفوذ وحضور البعض الآخر (اسلكو ولد أحمد أزدبيه)، لكن خلق قطب آخر يمكن الركون إليه يشكل رسالة مهمة من أجل المزيد من حث المعاونين على بذل قصارى الجهد والتذكير بأن خيارات الرئيس أكثر من أن تحصر فى صراع الأقران.
بل إن الرئيس عمق الرسالة بأخرى بدت مجهولة لدى الكثير من المتابعين لما يجرى، فالتغيير الوزارى استبق مقترحا بتغيير جزئى فى الإدارة الإقليمية، وهو التغيير الذى غادر بموجبه والى تكانت سيد ابراهيم ولد مولود بفعل التقاعد، ولكنه أكد – دون الحاجة لإعلانها- تعيين عبد الرحمن ولد خطرى واليا لولاية لبراكنه، من أجل ابلاغ الطرف الآخر بأن معيار التعيين والإقالة ليس الصراع فقط مع الوزير الأول، بل مايراه الرئيس وماتوحى به أجهزة صنع القرار، فخلاف عبد الرحمن ولد خطرى مع الوزير الأول أقوى أظهر ومهرجان جكنى الأخير كان أبرز ملامحه، لكن الأمور تم تسييرها بشكل يراعى بعض التحالفات القبلية القائمة ومراكز الثقل الإنتخابى بالمنطقة.
لكن الرسالة الأهم والأكثر وضوحا بالنسبة للعديد من المهتمين بشكل النظام السياسى ومراكز النفوذ، هي عودة الرئيس لاتخاذ بعض التدابير القاسية بحق رفاقه أو معاونيه على الأصح، واختيار الزمان الذى يراه ملائما دون الانتباه لما تحاول فرضه بعض الأطراف الأخرى، وإطلاق عجلة التغيير داخل الجهاز التنفيذى والإدارى من أجل حكامة أكثر تأثيرا فى مايجرى حولها من أمور، وربما تكون الأسابيع القادمة حافلة بالقرارات المفاجئة والمشابهة لما جرى يوم أمس الأثنين من إقالة وتدوير وترقية وتأديب.