شهدت نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر تحولات هامة على الصعيد العالمي سرعان ما عم صداها كل انحاء المعمورة.
فقد أدت الديناميكية العامة التي ميزت تطور المجتمعات الأوروبيةآنذاك إلى تفجير ما اعتدنا تسميته بالنهضة الأوربية.
وهي متغيرات أنارت العقل الأوربي المدفوع بتراكم رأس المال وكذا التطور العلمي والتكنلوجي، حيث ازدهرت التجارة بعد اكتشاف العالم الجديد وتطورت وسائل النقل،وانتشرت الجامعات، وعرف الاقتصاد نقلة نوعية تمثلت في انتشار الصناعات وتضاعف الانتاج.
وهي حيثيات واكبتها ثورة على الصعيدين الثقافي والسياسي،كانت الناظم الأساس لأغلب تشريعات الجمهوريات والملكيات الدستورية حديثة النشأة، ابتداء من نهاية القرن الـ 18.
كل ذلك هيأ الإطار المناسب لهيمنة الطبقة البورجوازية على صانعة القرار السياسي في أوربا ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع اكتمال الثورة الصناعية وتجذر النهج الليبرالي داخل المجتمعات الأوربية.
ومع النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدا المجال الأوربي عاجزا عن احتضان تطوره الذاتي حيث ضاقت الأسواق وانعدم الربح وسادت الرأسمالية الاحتكارية المعروفة لدى بعض مفكري اليسار بالإمبريالية، حينها أصبحنا أمام مظاهر أزمة بنيوية كان حلها المؤقت المد الاستعماريالأوربي المعاصر.
في هذا الظرف بدأت إفريقيا ترتبط وظيفيا بالدوائر الرأسمالية الأوربية، وعلى امتداد هذه الحقبة دخلت البلاد المسماة اليوم بموريتانيا في علاقات تجارية مع الأوربيين نظمتها عدة اتفاقيات وتجلت في تبادل بعض المواد (النيله، السكر، الشاي،الصمغ، السلاح، بعض الأدوات المنزلية وغيرها...).
وتم ربط المجتمع وظيفيا بالطلب الأوربي فضلا عن تعطيل تطوره الذاتي من خلال مسار اعتمد عدة أنماطمنعنف نذكر من بينها:
استمرت فترة الاحتلال حتى 1960 وهو تاريخ يتفق زمنيا مع انسحاب الإدارة الاستعمارية من دول ما وراء البحار في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، بعد التحول الحاصل في العلاقات الدولية وبروز المعسكر الاشتراكي في ظرف اكتملت فيه هيكلة المستعمرات السابقة في النظام الرأسمالي العالمي سواء عن طريق الاقتصاد المعدني الموجه للتصدير أو الزراعي، مثل ميفارما(MIFERMA) بالنسبة لموريتانيا ومن بعدها صوميما (SOMIMA) أو عن طريق نقل التكنولوجيا واستثمارات الشركات متعدة الجنسيات بالنسبة لبلدان أخرى، مع بروز بورجوازية صغيرة همها الربح السريع وشرائح مثقفة تقلد العقل ونمط التفكير الأوربيين.
ومع مطلع التسعينات أنهار المعسكر الاشتراكي وانتصر الغرب الرأسمالي خاصة على الصعيدين الإعلامي والسياسي، حينها بدأت الرسميات الغربية مختلف الضغوط لدمقرطة مستعمراتها السابقة وكان مؤتمر لابول الإفريقي الفرنسي حيث طالب "فرانسواميتران" زعماء إفريقيابتطبيق النهج الديمقراطي وربط بين الدعم الفرنسي ومدى الاستجابة لهذا الطلب؛ فهل كان ذلك حبا في ازدهار إفريقيا؟ أم رغبة فيأسجمة تبعيتها على الصعيد السياسي مع مستوى تبعيتها الحاصل على الصعيدين الاقتصادي والثقافي؟
في هذا السياق ولد دستور يوليو91 في موريتانيا الذي وفر الإطار القانوني لتطبيق النهج الديمقراطي التعددي على النمط الغربي.
لئن كان دستور 1991 قد حرر في ظرف تطبعه نشوة انتصار الغرب وما ولدته من تداعيات عبرت عنها توصيات مؤتمر لابول المذكور، فإن العالم اليوم يعرف منعطفا هاما يتمثل أساسا في ظهور بوادر عالم متعدد الاقطاب في ظل ما يمكن أن نسميه بالعولمة الموجهة بعد وصول القيادة الأمريكية الجديدة إلى سدة الحكم وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي واكتساح حمى العزوف عن اليسار مجتمعات القارة العجوز. مما قد يكون له انعكاس إيجابي على إمكانية تأهيل القرار السيادي الوطني، والحد من عنفوان العولمة التي اجتاحت العالم منذ نهاية القرن 20. أما على الصعيد الإقليمي فقد عرفت دول المنطقة عدة إصلاحات دستورية غير أن المتغير الأساسي هو تضاعف نشاط التنظيمات الإرهابية الذي بات يؤرق قيادات المنطقة ويطور سياسات التوحد لمكافحة هذه الظاهرة في ظرف ارتفع فيه منسوب التطرف والغلو.
أما على الصعيد الوطني فقد أعلن فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيزفي صيف 2016 عن نيته اقتراح تعديلات دستورية خلال حوار دعيت إليه كافة مكونات الطيف السياسي، لبته أغلب التشكيلات السياسية فضلا عن الكثير من المنظمات غير الحكومية وناشطي المجتمع المدني وقادةالرأي.
وقد تم الاتفاق على بعض الاصلاحات الدستورية الهادفة إلى مواءمةالنهجالديمقراطي لواقع الأمة وخصوصيتها التاريخية.
II- مضمون الإصلاحاتالدستورية:
يشمل مقترح الإصلاحات الدستورية المنبثقة عن الحوار الوطني المنظم أخيرا، بشكل أساسي، إلغاء مجلس الشيوخ،استحداث مجالس جهوية مع بعض الإضافات على النشيد والعلم الوطنيين وكذا دمج بعض الهيئات انطلاقا من وعي المشاركين في الحوار لضرورة تكييف دستورنا مع أهداف التنمية وواقع المجتمع على العموم وذلك على ضوء الملاحظات التالية:
III- استنتـــــــاجات عامـــة
لقد عرفت المأمورية الرئاسية الأولى والثانية إنجازات هامة ذات طابع بنيوي في كافة الميادين وخاصة البنية التحتية فاقت على الصعيدين الكمي والنوعي ما تم انجازه منذ ميلاد الدولة الوطنية سنة1960 بأضعاف، خاصة في المجالات التالية:
أما على الصعيد الإعلامي فقد أشاد المراقبون بما تتمتع به البلاد من حرية في الرأي وممارسة للحريات العامة.
في إطار هذه الإنجازات تتنزل التعديلات الدستورية، نظراإلى ما توفره من فرص لتجذير مختلف عناصر التنمية في إطار التصالح مع الذات وترقية محفزات الشعور الوطني.
ولئن كانت الديمقراطية اليوم هي الخيار الأكثر واقعية لضمان حرية الفرد وازدهار المجتمعات، فإنها تبقى تجربة فجرتها المجتمعات الأوربية عبر تطورها الذاتي من خلال مسار دام قرونابينا أهم حلقاته في مستهل هذا المقال.
وعليه فإن مواءمتها لواقعنا تظل ضرورة تنموية يمليها التاريخ والمصلحة. وبالمقابل يكون استيرادها دون تكييف نوعا من التغريب(L’occidentalisation)المظهري السطحي الكامل،مما قد يحولها إلى نمط من العنف(المؤسسي) يتكامل بنيويا مع أنماط العنف المصنفة أعلاه التي استخدمها الاستعمار الأوربي المعاصر لإخضاع بلاد شنقيط عبر مسار متميز ومتكامل الحلقاتوالأهداف.
وبناء على ما تقدم، تكون التعديلات الدستورية المقترحة اليوم حلقة جوهرية من مسارنا التنموي تصبفي خدمة ترقية الديمقراطية والتحرر، سبيلاإلى امتلاكمقومات الرقي والازدهار في ظل إكراهات الزمن.
حامد ولد بوبكر سيره