تلوث الهواء في نواكشوط... الخطر المجهول

يعتبر تلوث الهواء ظاهرة بيئية من الظاهرات التي أخذت قدرا كبيرا من الاهتمام العالمي، منذ النصف القرن الثاني من القرن العشرين وحتى وقتنا الحاضر. وتعتبر مشكلة التلوث إحدى أهم المشاكل البيئية الملحة التي بدأت تأخذ أبعادا متعددة بيئية واقتصادية واجتماعية خطيرة، خصوصا بعد الثورة الصناعية في أوروبا والتوسع الصناعي الهائل والمدعوم بالتكنولوجيا الحديثة، وأخذت الصناعات في الآونة الأخيرة اتجاهات خطيرة متمثلة في التنوع الكبير وظهور بعض الصناعات المعقدة والتي يصاحبها في أكثر من الأحيان تلوث خطير يؤدي عادة إلى تدهور المحيط الحيوي والقضاء على نظم البيئة.

 

لقد شهدت مدينة نواكشوط خلال العشريات الأخيرة تطورات كبيرة في مجال التوسع العمراني، والنمو الديمغرافي، وقد ساهم بشكل كبير في التمدد الأفقي للمدينة موجات الهجرة الكبيرة التي شهدتها منذ السبعينات وحتى الآن، حيث تشير المؤشرات ذات العلاقة أن ما يقارب ثلث سكان البلاد يقطنون داخل العاصمة، وبفعل التوسع الأفقي السريع وانعدام مخطط عمراني يساير التطور الكبير للمدينة وفق إستراتيجية حضرية تراعي مختلف أبعاد التنمية الحضرية المستديمة، تعاني المدينة جملة من المشاكل الكبيرة من أبرزها التلوث بمختلف أشكاله، وبشكل خاص تلوث الهواء بفعل الانتشار العشوائي للمصانع داخل أحياء المدينة دون مراعاة لاعتبارات الصحة العامة، فضلا عن غياب دراسات تقيم الأثر البيئي لهذه المصانع، وعدم احترامها إن وجدت، وكذلك الانتشار الواسع للنفايات الصلبة وتراكمها المستمر داخل الأحياء مع غياب وجود إستراتجية فعالة لنقلها أصبح التخلص الغير رسمي منها أمر واقع، خاصة عن طريق الحرق العشوائي والذي يترتب عليه جملة من المخاطر على الصحة العمومية من جهة وعلى البيئة من جهة أخرى.

ومن جهة أخرى فإن هذه الزيادة الكبيرة في سكان العاصمة صاحبتها كذلك زيادة كبيرة في أعداد السيارات، حيث أصبحت ظاهرة الزحمة اليومية في المناطق المركزية داخل المدينة أمر حتمي، مما فاقم بشكل كبير في تلوث الهواء داخل المدينة، حيث تشير الإحصائيات إلى أن الغازات التي تطلقها عوادم السيارات هي أكبر عامل ملوث للهواء في المدن، إذ تصل نسبة هذا التلوث إلى نحو 60% من حجم عوامل التلوث الأخرى.

ويعتبر تمركز الوزارات والمنشآت الخدمية والأسواق داخل مركز المدينة هو العامل الأول في حدوث الزحمة اليومية للسيارات وما يصاحبها من تلوث الهواء، حيث إن عدم اكتمال عملية الاحتراق الداخلي لمحرك السيارة يزيد من حدة التلوث وخطورته على الصحة والبيئة على حد سواء.

ونتيجة عوامل متعددة من بينها الموقع شبه المسطح للمدينة، فضلا عن عدم وجود بنايات كبيرة لها القدرة على توجيه الرياح أو صدها، لذلك فإن الرياح تقوم بتوزيع هذا التلوث في اتجاهات هبوبها، وبالتالي فإن أكبر حيز من المدينة، سيعاني من آثار هذا التلوث، مما ينعكس سلبا على نوعية الحياة في المدينة، مما قد يكون له تأثير مباشر على الوسط الحضري للمدينة بصفة عامة، وعلى جودة الحياة في بصفة خاصة.

 

السيارات.. الملوث الأول

تمثل السيارات المصدر الرئيسي لتلوث الهواء حيث أن ثلثي كمية أول أكسيد الكربون، ونصف كمية الهيدروكربونات واكاسيد النيتروجين التي تلوث الهواء يرجع مصدرها إلى السيارات وينتج عن عملية الاحتراق داخل محرك السيارة عدة مرَكبات هي: هيدروكربونات غير محترقة وأول وثاني أكسيد الكربون واكاسيد نيتروجين وأكاسيد كبريت ومركبات رصاص وبخار ماء وجسيمات صلبة و روائح.

زيادة كبيرة في إعداد السيارات في نواكشوط :  

تشهد مدينة نواكشوط زيادة كبيرة في أعداد السيارات توازيا مع الزيادة الكبيرة في أعداد السكان حيث إن سكان المدينة يشكلون ما يقرب من ثلث سكان البلاد. إلا أنه لا يوجد بنك معلومات دقيق حول أعداد السيارات في البلاد، وهذا ما يصعب دراسة تلوث الهواء الناتج عن عوادم السيارات.

ويشهد الأسطول الوطني من السيارات زيادة متباينة من فترة إلى أخرى، فقد كانت أعداد السيارات للفترة (1980 ـ 2004) تصل إلى 116.450 سيارة، وقد زادت أعددها خلال الفترة (2004 ـ 2010) بنحو 53.124 سيارة، ليصبح العدد الإجمالي 169.574 . وتمثل أعداد السيارات الموجود في نواكشوط ما نسبته 80% من العدد الإجمالي، إذ تصل نحو 119.454 سيارة.

وبما أن أحد محددات التلوث الناتج عن انبعاث الغازات من السيارات هو عمر السيارة، فإن مدينة نواكشوط من المحتمل أن تكون تعاني من تلوث هوائي حاد بفعل السيارات القديمة التي تجري في شوارع المدينة، حيث أن شوارع المدينة تجري فيها سيارات يزيد عمها عن 30 سنة، لذلك فإن الملوثات التي تنتجها هذه المركبات قد تكون تضاعفت عن حجمها الافتراضي، ويقدر متوسط أعمار السيارات  التي توجد في مدينة نواكشوط حسب النوعية بـــــما يلي :

  • سيارات الخاصة 16 سنة،
  • حافلات صغيرة 18 سنة،
  • حافلات  20 سنة،
  • شاحنات  30 سنة.

يمكن تقسيم هذه السيارات حسب النسبة المئوية بالاعتماد على معلومات التوزيع السابقة، ولذلك سيكون أسطول السيارات في البلاد يتشكل من :

  • سيارات عمرها أقل من سنة تمثل نسبتها 2.1%،
  • سيارات عمرها 8 سنوات تمثل  نسبتها 15.6%،
  • سيارات عمرها 18 سنة تمثل  نسبتها 82.3%.

كما هو وارد في البيانات السابقة فإن أكثر من 80% من نسبة السيارات الموجودة في مدينة نواكشوط هي سيارات قديمة وتجاوزت عمرها الافتراض (العمر الافتراض للسيارة 10 سنوات في للسيارة في أغلب دول العالم الأول والثاني)، لذلك فإن كمية الملوثات التي تطلقها في الهواء من المرجح أن تكون تضاعفت بفعل تهالك المحرك وعدم صيانته.

 

أمراض الجهاز التنفسي.. الأكثر بين سكان العاصمة

لقد أوضحت إحصائيات وزارة الصحة خلال سنة 2008 أن الإصابات الحادة في الجهاز التنفسي شكلت نسبة 16.4% من مجموع الاستشارات في المراكز الصحية على مستوى البلاد، حيث بلغت في نواكشوط بلغت (27.2%)، ويعتبر العامل الأول المسبب للإصابات بأمراض الجهاز التنفسي في نواكشوط هو تلوث الهواء بالغازات المنبعثة من السيارات، والمصانع المنتشرة في المدينة دون اعتبارات الصحة والسلامة.

وقد شكلت الاستشارات الخاصة بالإصابات الحادة في الجهاز التنفسي Infections Respiratoires Aigues (IRA) نسبة 27.70% من مجموع الاستشارات الطبية في انواكشوط سنة 2011، بينما كانت في 2010 تصل 21.47%. وتعتبر المناطق الشمالية من البلاد ومدينة نواكشوط هي الأكثر تضررا من أمراض الجهاز التنفسي بفعل النشاطات الصناعية الملوثة للهواء، حيث يعتبر تلوث الهواء العامل الأول في حدوثها. فقد بلغت نسبة استشارات أمراض الجهاز التنفسي في نواكشوط حوالي 21.44%  من مجموع الاستشارات الطبية على مستوى الوطني خلال سنة 2011، كما أنها هي أكبر نسبة استشارات من بين جميع استشارات الأمراض لأخرى على مستوى المدينة.

 

وخلال سنة 2012، شهدت نسبة الاستشارات في المستشفيات والمراكز الصحية بمدينة نواكشوط تناقصا طفيفا مقارنة مع سنة 2011 حيث بلغت 18.31% من مجموع استشارات بمختلف الأمراض الأخرى، إلا أنها ظلت هي أكبر نسب الاستشارات من بين جميع الأمراض الأخرى في المدينة. وفي سنة 2013 شهدت نسبة الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي زيادة مقارنة بسنة 2012، حيث بلغ عدد المصابين 71 547  شخص، بنسبة  بلغت 19.70%، وظلت هي النسبة الأكبر من بين جميع نسب استشارات الأمراض الأخرى في المدينة. وخلال سنة 2014 وصلت نسبة الاستشارات المتعلقة بأمراض الجهاز التنفسي في مدينة نواكشوط 20.56% من مجموع الاستشارات الخاصة بأمراض الجهاز التنفسي على المستوى الوطني، بمجموع مصابين بلغ 46961 مصاب.

أما سنة 2015  فقد بلغت نسبة الاستشارات أمراض الجهاز التنفسي فيها ما يزيد على 29.94% من نسب الاستشارات في البلاد  وقد ظلت هي أكبر نسبة للاستشارات من بين جميع استشارات الأمراض أخرى. وقد بلغ عدد المصابين بأمراض الجهاز التنفسي ما يزيد على 46961 مصاب. تختلف حسب أعمار المصابين إذ أن الأطفال وكبار السن هم الأكثر تتضررا من هذه الإصابات حيث بلغ عدد الاستشارات لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 1 سنة و4 سنوات إلى حوالي 11085 استشارة، كما بلغت الاستشارات لدى الأطفال حديثي الولادة إلى نحو 8154 طفل بمجموع إجمالي يصل إلى 19239 طفل، وهي أكبر إصابات من بين الفئات العمرية الأخرى.  بينما جاءت إصابات البالغين في المرتبة الثانية حيث بلغت بمجموع النساء والرجال إلى 18801 مصاب. كما جاءت فئة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 ـ 15 سنة في المرتبة الثالثة، حيث بلغ عدد المصابين من هذه الفئة إلى نحو 8921 مصاب.

                                                                     

من خلال هذه المعطيات يتضح أن انتشار أمراض الجهاز التنفسي بات أمر واقعي في مدينة نواكشوط بفعل تلوث الهواء بمختلف أنواع الملوثات الخطيرة، حيث من بين هذه الملوثات الغازات الخطيرة التي تطلقها السيارات في الجو، فضلا عن الملوثات التي تطلقها المصانع مثل الجسيمات الصغيرة والدقيقة (جسيمات PM 10 وجسيمات 2.5 PM) والتي تشمل الكبريتات والنيترات والكربون الأسود، والتي تخترق عمق الرئتين والجهاز الوعائي للقلب ما قد يتسبب في الوفاة للمصابين.

التلوث الهوائي...والتكاليف التنموية

تعد جودة الهواء ضرورية لصحة وسلامة السكان، حيث يشكل تلوث الهواء عبئاً على اقتصاد الدول من حيث تكاليف إقامة المستشفيات ومواجهة ازدياد حالات الأمراض، انخفاض إنتاجية العامل بسبب تدهور صحته، استنزاف للموارد، تلوث الآثار و المباني بالتفاعل الكيماوي لمكونات المواد الملوثة للهواء، فضلا عن انتشار الضباب و انخفاض مدى الرؤية بالطرق السريعة و زيادة نسبة وقوع الحوادث، ، وارتفاع متطلبات التنظيف والصيانة للبنية التحتية

لمشكلة التلوث لها تأثيرات  حادة  على  الإنسان الأمر الذي يؤدي إلى جملة من الآثار ومن بعدها الضغط على الخدمات في العديد من المجالات . هذه المطالب الخدمية تشكل ضغوطاً متزايدة على الدولة و قدرتها على أداء هذه الخدمات في مجالات الصحة و التعليم و النظافة وبالتالي تبدأ قدرة الدولة في الانهيار وعدم الوفاء بهذه الخدمات و تنخفض كفاءتها 

وتبعا لخطورة المشاكل البيئية والمتمثلة في القضاء على البيئة والتنوع الحيوي فيها بكل ما تحمله لخير للبشرية، إضافة للتكاليف الاقتصادية المتمثلة في تعويض الأضرار، ومحاولة الحد من زيادة هذه الأضرار وتهديدها للمنجزات الاقتصادية الذي حققته الدول. نشير إلى أن عملية قياس التكاليف البيئية والتحديد النقدي لها تصادف عدة مشاكل نظرية وعملية، لوجود جزء غير قابل للقياس  النقدي وهو الآلام النفسية وتدهور البيئية والجمالية النظار.

المسطحات الخضراء.. الحل المفقود

إن زيادة المسطحات الخضراء يحقق جانبين الأول بيئي من خلال المعادلة والموازنة بين النمو العمراني والسكني من جهة والكفاءة البيئية والصحية في المدينة من جهة أخرى وتتضمن المدن الخضراء فوائد الحفاظ على العلاقة بين الطبيعة والعنصر البشري بشكل متوازن، مع تكوين كيانات عالية الأداء ومجتمعات تحافظ على الموارد الطبيعية.

يعد إنشاء المسطحات الخضراء ذات احتياجات منخفضة من الماء، واستعمال المياه العادمة في المدينة لريها، تعد من ضمن خصائص المدن الخضراء، حيث تساهم بفعالية في التقليل من حرارة المناخ الخارجي،  مما يقلل الحاجة إلى لاستعمال التكييف، إذ أن زيادة المساحات الحضرية الخضراء داخل مدينة تتراوح درجات حرارتها بين 25 - 45° يقلل من تكلفة التكييف ما بين (3 – 5%) وبالتالي فإن استغلال الطاقة سيقل ومن بعده تلوث الهواء. كما إن من فوائدها الأخرى تخفيف  حدة التلوث الهواء داخل المدينة عبر امتصاصها للملوثات الموجود في الهواء، واطلاقها للأكسوجين (O2) في الهواء، وهي عملية ذات أهيمة كبيرة في تنقية الهواء.

 

لا تعاني المدينة من التلوث الناتج عنه المصانع فقط، بل إن النمو السكاني المتسارع وما ينتج عنه من ازدياد عدد السيارات والمنشئات الصناعية له أيضا الدور الكبير في ارتفاع نسبة الملوثات الهوائية وخاصة الرصاص الناتج عن استهلاك الوقود المحتوي على الرصاص الذي يعتبر من أشد الملوثات خطرا صحة الإنسان وكذلك البيئة. ونتيجة الآثار السلبية للتلوث الهوائي الحاد في المدينة يعاني سكانها من انتشار الأمراض الناجمة عن هذا التلوث خاصة أمراض الجهاز التنفسي بمختلف أشكالها، حيث تشير إحصائيات إلى أن الأمراض الناتجة عن التلوث الهوائي هي الأكثر انتشارا في المدينة مقارنة مع باقي الأمراض الأخرى على مدى العشر سنوات الماضية.

لا تقتصر مخاطر التلوث على الصحة فقط، بل أيضا تشكل عبئا يعيق التنمية، حيث إن تكاليف الناجمة عن علاج الأمراض التي تخلفها الملوثات تؤدي إلى خسارة العمالة المنتجة، مما يؤدي إلى انخفاض مستويات الدخل. ويمكن أن يكون لتلوث الهواء أيضا أثر دائم على الإنتاجية بطرق أخرى كذلك من خلال إعاقة نمو النباتات وتقليص إنتاجية قطاع الزراعة وجعل المدن أقل جاذبية للعمال الموهوبين، ومن ثم الحد من قدرة المدن التنافسية.

ومع هذا التلوث الهوائي الكبير الذي تعاني منه نواكشوط، تفتقر المدينة إلى المناطق الخضراء، والتي تلعب دورا كبيرا في الحد من تلوث الهواء داخل المدن، بفعل قدرة الأشجار على امتصاص الملوثات من الهواء، فضلا عن غياب الشوارع الخضراء داخل المدينة بما لها من دور مهم في الحد من التلوث، ومع ذلك لم يضع المخطط الشامل للمدينة مناطق مخصصة للتشجير لخلق بيئية خضراء داخل المدينة من جهة، وإعطاء جمالية للمنظر العام للمدنية من جهة. حيث أن المساحات الخضراء تقوم بالتوازن في البيئة لأن النباتات تقوم بعملية تعويض الفاقد من الأوكسجين من خلال عملية البناء الضوئي.

إن تقنية المناطق الخضراء هي جزء من متطلبات تحقيق التنمية الحضرية المستديمة والتي تمكن من مكافحة تلوث الهواء ومواجهة العديد من الإشكالات والتحديات البيئية والعمرانية التي تواجه المدينة في الوقت نفسه، كما أنها تفتح المجال لتطوير الأشكال المختلفة للتعامل مع المشكلات الحضرية المستقبلية ووضع معايير ملائمة لمواجهتها وفق رؤية تنموية تراعي مختلف الأبعاد، تمكن من صياغة مستقبل مستدام للمدينة.

 

ملاحظة: المقال جزء من داسة علمية مفصلة عن تلوث الهواء في نواكشوط

فتاح/ محمد المختار

Vetah93@gmail.com