قال الدكتور محمد مختار الشنقيطي أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان بجامعة حمَد بن خليفة إن قطر تمكنت من محاصرة دول الحصار، بفضل صلابة الجبهة الداخلية القطرية، مشيراً إلى أن هذا الأمر تحقق نظراً لوجود وعي عميق لدى الشعب القطري، وتلاحم وثيق بينه وبين قيادته.
وأكد في حواره مع "الشرق" أن السعودية تحولت إلى ما يشبه "الحديقة الخلفية" للإمارات ومنطقة نفوذ لها، وهو ما كان واضحا في كلام يوسف العتيبة، مشيراً إلى أن هذا الأمر سيزيد من التوتر والتمزق في المنطقة كلها.
وأوضح أن قيادة الإمارات الحالية لديها نظرة سلبية لكل ما له علاقة بالدين الإسلامي، مؤكداً أن السياسة الإماراتية سياسة خطيرة وذات مردود عكسي سيرتد على الإمارات ذاتها، بعد أن أشعلت الحرائق في أرجاء الجسد العربي.
وإلى نص الحوار..
* بداية ما تقييمك لتعامل القيادة القطرية مع الأزمة الخليجية؟
** لقد أدارت قطر الأزمة بحكمة وجدارة من الناحيتين الأخلاقية والعملية. فقد رفضت الانسياق مع لغة الشتيمة والابتذال التي تبناها إعلام الحصار، كما رفضت معاملة مواطني دول الحصار بالطريقة المشينة والمهينة التي عاملت بها تلك الدول مواطني قطر، الذين كانوا على أرضها مع بداية الأزمة. بل أعطتهم الخيار في البقاء في أعمالهم في قطر معززين مكرمين، أو الرجوع إلى بلدانهم في الوقت الذي يريدون، دون ضغط او إكراه.
وعلى الجبهة الدبلوماسية، حاصرت قطر دول الحصار، فأقنعت أهم القوى الإقليمية والدولية بصحة موقفها، وبعدم شرعية الحصار الظالم. وما كان كل هذا ليتحقق لولا أن الجبهة الداخلية القطرية كانت صلبة ومتماسكة، وهو أمر يدل على وعي عميق لدى الشعب القطري، وتلاحم وثيق بينه وبين قيادته.
التلاعب بالمنطقة
* برأيك من المستفيد من الأزمة الخليجية؟
** المستفيد الأول من الأزمة هي القوى الدولية الساعية للتلاعب بالمنطقة، وهدم عناصر قوتها المادية والمعنوية، واستنزافها في الصراعات الداخلية، وإشغالها بذلك عن أي بناء حضاري.
كما أن بعض الأطراف الإقليمية استفادت من الأزمة، وبعضها خسرت. فأكبر المستفيدين الإقليميين هي إيران التي استثمرت الأزمة بذكاء، واتخذتها فرصة لإعادة تأهيل نفسها في المنطقة، بعد أن كانت سمعتها في الحضيض بسبب سياساتها في العراق وسوريا واليمن. وتركيا هي المستفيد الثاني من الأزمة، حيث وجدت فيها فرصة لتوسيع نفوذها الإقليمي، وتوطيد علاقاتها التاريخية بالجزيرة العربية، والاستفادة من السوق القطري اقتصادياً، بعد أن فرَّطت فيه السعودية والإمارات. ويبقى الخاسر الأكبر من الأزمة هي السعودية التي ستشهد تراجعاً استراتيجياً كبيراً، خاصة أنها دفعت المنطقة إلى اصطفافات جديدة ستزيد من تحجيم السعودية وتقزيمها، إضافة إلى الخسارة المالية الضخمة التي ستخسرها السعودية بعد أن فقدت السوق القطري.
*كيف ترى مستقبل المنطقة في ظل الأزمات التي تعيشها؟
* تمر المنطقة بمرحلة تحول تاريخية عميقة. وكل مراحل التحول التاريخية لها آلامها المصاحبة، لكنها تبشر بفجر جديد. فالمنطقة تعاني من آلام المخاض، والأزمات التي تعصف به، أعراضٌ موت عالم قديم، وميلاد آخر جديد.. الآن يحتاج حكماء المنطقة إلى العمل والأمل، والتفاؤل بالمستقبل، مع إدراك تعقيدات مراحل الانتقال بشكل عام، وثمنها في الدماء والأموال. ومن الواضح أن الأزمة الخليجية تحولت الى بذرة لاصطفافات إقليمية ودولية جديدة، سيربح منها من يتسمون بالعزيمة والحكمة، وسيفشل فيها من يتبعون سياسة الارتجال والابتذال.
* لماذا تقوم الإمارات بهذا الدور التخريبي في المنطقة والعالم الإسلامي؟
** القيادة الإماراتية الحالية قيادة طموحة، لكن بالمعنى السلبي للكلمة الذي يرادف كلمة الغرور. فهي تطمح إلى أن تكون دولة قائدة في الإقليم، لكنها لم تترجم هذا الطموح إلى سلوك سياسي إيجابي مثل مناصرة الشعوب — كما فعلت قطر — وإنما ترجمته إلى سلوك هدام يخدم القوى الطامعة إلى الهيمنة على المنطقة، والاستمرار في استنزافها. وقد تكون الدوافع إلى ذلك أيديولوجية، إذ من الواضح أن قيادة الإمارات الحالية لديها نظرة سلبية إلى كل ما له علاقة بالدين الإسلامي. لكن السياسة الإماراتية سياسة خطيرة وذات مردود عكسي سيرجع على الإمارات ذاتها، بعد أن أشعلت الحرائق في أرجاء الجسد العربي.
** هل للأزمة آثار سلبية على الربيع العربي خاصة أن الحصار المفروض على قطر من أجل دعمها للربيع العربي وتطلعات الشعوب؟
* كان طموح الذين أشعلوا الأزمة أن يجعلوها نهاية الربيع العربي، من خلال السيطرة على قطر، وحرمان الشعوب العربية الثائرة من الدعم المعنوي والإعلامي الذي تحصل عليه من قطر. ولكنهم فشلوا في ذلك، كما فشلوا في مسعاهم لإسقاط الرئيس التركي أردوغان العام الماضي، وكان من أهدافهم آنذاك منع الدعم المعنوي والمأوى الذي توفره تركيا للثوار العرب. فالتأثير الذي قصده مشعلو الأزمة فشل. لكن من المؤكد أن الأزمة ستكون لها آثار استراتيجية على ثورات الربيع العربي، بعضها إيجابي، وهو وضوح الاصطفافات بعد الأزمة، فلم تعد قطر وتركيا ملزمتين بمجاملة دول الثورة المضادة، وبدأ سلوك الدولتين السياسي يتسم بالعفوية والانسجام مع المبادئ التي تتباها قيادتا الدولتين بشكل أوضح. ومن آثار الأزمة أيضا التقارب التركي — القطري مع إيران الذي تسببت فيه الأزمة، وسيكون لهذا التقارب أثر عميق على بعض الثورات العربية، خصوصا الثورة السورية. فلا أستبعد أن تتوصل الدول الثلاث إلى تصور مشترك لمستقبل سوريا، وتقنع به روسيا، بعيدا عن القوى الإقليمية والدولية الأخرى.
* على ضوء تصريحات محمد بن سلمان بالخروج من "المستنقع اليمني" لماذا تضطر السعودية للخروج من اليمن؟
** لقد اتسمت السياسية الخارجية السعودية خلال الأعوام الأخيرة بالكثير من التخبط والارتجال والابتذال، فهي تفعل الشيء ثم نقيضه على الدوام، خصوصا منذ توطَّد نفوذ محمد بن سلمان. فليس من المستغرب أن يخرج الرجل من اليمن بنفس الارتجال الذي دخلها به. فالسعودية فشلت في تحقيق أي شيء في اليمن، سوى سفك دماء هذا الشعب الشقيق، وهدم بنيته التحتية الهشة، وبناء أحقاد على الشعب السعودي. والسبب هو أن السعودية لم تأت لخدمة الشعب اليمني، بل لمحاربة القوى السياسية الإسلامية. كما أن البلاهة التي اتسمت بها القيادة السعودية جعلتها تحاول استخدام الحوثيين وصالح، وانتهى الأمر بأنهما استخدما السعودية ضد خصومهم المحليين، ثم تحالفا مع خصم السعودية الإقليمي إيران. فليس أمام السعودية الآن سوى الخروج أو الإصرار على الاستمرار في الفشل.. فالبلاهة السياسية لها ثمنها.
* ماذا عن دور الإمارات في اليمن؟
** أولوية الإمارات في اليمن هي الحرب على كل ما له صلة بالقوى السياسية الإسلامية، والسيطرة على المنافذ البحرية في جنوب اليمن. وهي بهذا تخدم أيديولوجية قيادتها المعادية للإسلام، وتقدم نفسها وكيلا عن بعض القوى الدولية التي يهمها باب المندب لأسباب اقتصادية واستراتيجية.
* هل تعتقد أن الإمارات باتت تسيطر على القرار السعودي في ضوء تصريحات العتيبة؟
** نعم بكل أسف، فالسعودية التي كانت الدولة القائدة الرائدة في منطقة الخليج، تحولت اليوم إلى ما يشبه الحديقة الخلفية للإمارات، فهي الآن مجرد منطقة نفوذ إماراتي. والفجاجة التي يتحدث بها العتيبة عن السعودية، وتفلسفه حول مستقبلها الديني والسياسي، يدلان على أن أبو ظبي تخترق اليوم قرار الرياض اختراقاً عظيماً. وهذا أمر مؤسف حقا، لأنه لن يجلب للسعودية والخليج خيراً، بل سيزيد من التوتر والتمزق في المنطقة كلها، حتى تعود السعودية إلى ذاتها، وتفكر بحكمة الأخ الأكبر في الخليج ومسؤولياته.
الروابط الاجتماعية الخليجية
* هل تعتقد أن حصار قطر انعكس سلبا على الشعوب الخليجية؟
** الروابط الاجتماعية بين شعوب الخليج عميقة جدا، وهي أقوى من الترابط السياسي، وأسوأ ما في الأزمة الحالية هو تقطيع الأرحام بين هذه الشعوب، وبث الكراهية بينها، ونشر ثقافة الشتيمة وهتك الأعراض الجماعي فيها. وهذا للأسف ما فعله الإعلام السعودية والإمارتي — وما يزال يفعله — خلال هذه الأزمة. لكن الشعوب الخليجية واعية، وهي قادرة بفطرتها الإسلامية وحاستها الإنسانية على التمييز بين الغث والسمين، وتحصين نفسها ضد الاستغلال السياسي والإعلامي الفج.