المجلسي يستذكر معلمه الأول في يوم اللغة العربية

يومَ أُغلِقت المعاهد الدَّعْوية في عهد ولد الطَّايع خرجَ بعضُ المصلِّين عصرا من مسجد بُدَّاه كأنَّهم على وَعد, ووقفوا في الرَّحبة يتعاطَون أخبارَ القضية المفاجئة, ويستنكرون الإقدام عليها بقلوبٍ معجونة بالغضب.

خرج عليهم شَيخٌ مألوف في ثَوبه العتيق ولثامه المكوَّر, غيرَ مُنتَعل, وقلَّب الطّرفَ فيهم, مُرسِلا نَظرةَ استِفهام بَريئة, فتقدَّم إليه أحدُ الفُضلاء على قَدَم التَّوقير, وحيَّاه, ووضع يَدَه على عاتِقه مُلاطِفا, وناوله الأخرَى يتوكَّأ عليها حتَّى وقف بينهم.. فسألهم الشَّيخُ ما الخبر؟ فأجابوه: "لقد أَغلقَت الحكومة النَّوادي الدَّعْوية ومعاهد الوعظ والتَّدريس.."
ردَّ الشَّيخ طَرفَه, وأَطرَق..وحَبَس القومُ أنفاسَهم لحظاتٍ ينتَظرون منه تصريحا برأي أو تلميحا بدُعاء..غيرَ أنَّه طَرَق بابا يتوقَّعون منه طَرقَه إلاَّ في تلك المناسبة, فدخل واديا طالما تَيمَّم رياضَه, ووَردَ حياضَه, وقالَ لهم بلباقة على جَبينها جِدٌّ: "هل عندَكم شاهد على جمع نادٍ على نوادٍ..؟ أعلم أنَّ النوادي وردت في خطبة القاموس, ولعلَّها قياس, لكنَّ الصَّواب ما نُقل عن الأقدَمين من جمع النَّادي والنَّديِّ على أندية..
حمَّالُ ألوية شَهادُ أندية..قوَّالُ مُحكمَة جوَّابُ آفاقِ
والنَّوادي أطلقها العربُ على معانِي منها الإبل الشَّاردة يُقالُ لها نوادٍ"
تَعجَّب القَومُ من عناية الشَّيخ بهذا اللِّسان حتَّى في مثل هذه المواقف الَّتي تُنسي غيرَها, لكنهم كانُوا يُدركون أنَّه شُغِف به, وكَرِه اللّحنَ فيه, ورشَف سمعُه سلامة النُّطق به, حتَّى صار له صَخرا في قول الخنساء:
يُذكِّرني طُلوعُ الشَّمس صَخرا..وأذكُرُه بكلِّ مَغيب شَمسِ 
لا يزالُ ذلك الشَّيخ الَّذي درستُ عليه في الصِّغر مبادِئ النَّحو والصَّرف, يلتحف التَّواضع, ويتوكَّأ على عصاه, ويخرج من بيتَه الخالي إلا من العِلم.. في أطلال لكصر القديم, ويَقصد مسجد بدَّاه العتيق فيجلسُ إليه طلاَّبُ اللُّغة والنَّحو والصَّرف..من جنسيات مختلفة, فيَجلي دُجُنَّات مُشكلاتِهم, ويُذلِّل لهم كُلَّ معضلة زبَّاء.
حَضرتُ له مَجلسا فكان يُدرِّس الألفية, وذَكر تصغيرَ أفعل التَّفضيل..فذكر شاهده المشهور:
يا ما أميلَحَ غزلانا شَدنَّ لنا..من هاؤلِيَّائكُنَّ الضَّالِ والسّمُرِ
وأتبعه بقوله:
بالله يا ظبَيات القاع قُلنَ لنا.. لَيلايَ منكُنَّ أم ليلَى من البَشَر
كانت دُون أذان المغرب دقائق, وكان إلى جانب الحلقة رجلٌ مشتغلٌ بالذِّكر, يردِّد "لا إله إلا الله" فأنكرَ على الشَّيخ الاشتغال بذكر سَلمَى وليلى والحديث عن الظِّباء في هذا الوقت الثَّمين...فأجابَه الشَّيخ بأنَّ أعظم ما يُتعلَّم له هذا الِّلسان فهمُ كلمة التَّوحيد, وأنَّه أدرك العلماء يَقولون:
أوَّل واجبٍ على مَن كُلِّفا..مَعرفةُ اللغة حتَّى يَعرِفا
معنى الإله باللسان العَرَبي..ففُز به تَحظَ بنيل الأرَبِ
كان عندي حينَها درسٌ بعد صلاة المغرب, فلمّا جلستُ على الكُرسيِّ قام الشَّيخ وقال: سأتطفَّل –ولم يكن متطفِّلا, بل كنتُ أنا الطُّفيلي- وسأل –وهو أدرَى-: فقال أليس ما نَذكُره من الأشعار وأخبار العرب داخلا فيما ذكر البدويُّ في أنسابه:
ولعقيلٍ تُوضعُ الطَّنافِسُ..بمسجد النَّبيِّ وهْو جالسُ
يُحدِّث النَّاسَ بأيَّام العرَبْ..وما لها من حسبٍ ومِن أَرَبْ..؟!!
إنَّه شيخنا الكريم ابُّوه ولد المَحبوبي..من طينة الشَّناقطة الأوائل في علمه وتواضعه وقُربه, حفظه الله ورعاه, وأثابه على جهده التَّعليميِّ رَوضات رِضاه.

محمد سالم المجلسي