تشكل الزيارة الأخيرة التي أداها أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لدول بمنطقة غرب إفريقيا لفتة هامة من قطر لإحداث حضور قوي بهذه المنطقة الحيوية سياسيا ودبلوماسيا، وتعتبر شريانا اقتصاديا رئيسيا في مجموعة التنمية الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إكواس).
أعلنت الدوحة أن هدف الزيارة هو السعي لتوسيع دائرة الأصدقاء وتعزيز الروابط القائمة وتنويع الشركاء في مجلات التعاون والشراكة المختلفة، لكن من الواضح قطر لديها هدف آخر يتمثل في تحسين صورتها وعلاقاتها ببعض دول محطات الزيارة، والتي ارتمت خلف معسكر السعودية إبان انطلاق شرارة الأزمة الخلجية.
خصوصية محطة السنغال
أعطت المواقف المفاجئة لبعض الدول الأفريقية التي آثرت الاصطفاف إلى جنب السعودية في سعيها لحصار قطر رسائل للدوحة جديرة بالاهتمام والتأمل، فحتى وإن كانت هذه الدول "مكرهة" على خياراتها الدبلوماسية التصعيدية تجاه الدوحة، فإن الرسائل المستخلصة من مواقفها تقود لتحليل بأن الدوحة بحاجة لبناء علاقات متينة وصلبة بهذه الدول.
والسنغال هي البلد الوحيد من هذه المحطات الذي تبني في بداية الأزمة مواقف غير ودية تجاه الدوحة حين بادرت باستدعاء سفيرها من الدوحة، لكنها سرعان ما أعلنت وقوفها في منطقة الحياد ودعمت المبادرة الكويتية قبل أن يتصل رئيسها ماكي صال بأمير قطر معربا له عن نيته التراجع عن قراره وعودة العلاقات على ما كانت عليه. لقد ارتبكت السنغال في موقفها وخرجت عن حيادها المعروف في النزاعات وهو ما فوت عليها فرصة لعب دور الوسيط في الأزمة.
تمتاز السنغال بفاعلية إقليمية بالمنطقة وتتمتع بحيوية دبلوماسية وازنة، وبالتالي من الطبيعي أن تأتي السنغال في طليعة الدول التي وقع عليها الاختيار كمحطة أولى في الزيارة، بيد أن هناك تفسيرا آخر لهذا الاختيار يتمثل في حاجة الدوحة لبذل جهود تصالحية مع نظام الرئيس صال، الذي يأخذ مقربون منه على قطر الاحتفاظ بعلاقاتها مع الرئيس السابق عبد الله واد ونجله كريم واد، الذي لعب الأمير تميم دور وساطة من أجل إطلاق سراحه قبل أزيد من سنة بعد أن تمت إدانته بتهم تتعلق بالفساد المالي.
أما التفسير الثالث لهذا الاختيار فهو راجع للعلاقات التاريخية للبلدين، فقد زار أول رئيس للسنغال ليوبولد سيدار سنغور قطر سنة 1975 حيث استقبله ساعتها الأمير خليفه آل الثاني واتفق الرجلان على تجسيد فكرة تجسيد التعاون الإفريقي العربي، خاصة فيما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية، ثم تعززت هذه العلاقة لاحقا بين الحكام الذين تعاقبوا على حكم البلدين، وازدادت هذه العلاقة قوة وتطورا في عهد نظام الرئيس السابق عبد الله واد.
منافسة الحضور السعودي الإماراتي
حتى وإن لم تعلن الدوحة رسميا أن تحركها يأتي لمواجهة التمدد السعودي الإماراتي بدول المنطقة، فمن الواضح من خلال سياقات التوقيت أن أجندة التنافس مع الرياض وأبوظبي تعتبر محركا رئيسيا لزيارة أمير قطر.
فتوقيت الزيارة يأتي بعد أيام قليلة من إعلان السعودية والإمارات المشاركة في دفع جزء كبير من فاتورة تمويل القوة العسكرية لدول منطقة الساحل الخمسة (موريتانيا، مالي، النيجر، بوركينا فاسو، وتشاد ) التي سيتم نشرها في شمال مالي للقيام بمهمات قتالية وأمنية ضد عناصر الجماعات المتشددة والعصابات الإجرامية.
لقد أسست كل من السعودية والإمارات لمبدأ التبعية الدبلوماسية ومنطق الوصاية كأساسين ناظمين لعلاقاتهما مع الدول الأفريقية، فكانت سياسية العصي والجزرة هي الحاكمة لسلوكهما مع الأفارقة، فالرياض مستعدة لضخ الاستثمارات وتقديم المال بشكل سخي للدول والحكومات التي تسير في فلكها، كما أنها لا تتردد في إنزال خيارات العقوبة والصرامة في حق من يمتنع عن تنفيذ طلباتها في المجال الدبلوماسي حتى ولو تطلب ذلك قطع المساعدات الإنسانية وتقليص حصص الحجاج.
لكن هذا الأسلوب وضع العديد من حلفاء الرياض في حرج شديد، فالعديد من هذه الدول تحظى بمستوى لا بأس به من الديمقراطية مما يجعل حكوماتها المنحازة للرياض تبدو وكأنها تحت وصاية جهة خارجية ومنزوعة السيادة في عيون شعوبها.
ثم إن الكثير من الأفارقة يرون أن القارة السمراء لديها من المشاكل والتحديات ما يجعلها في غنى عن استيراد الصراعات التي تحدث في فضاءات جغرافية بعيدة عنها. وانطلاقا من هذه القراءة بدأت بعض حكومات الدول المحسوبة على معسكر السعودية في مراجعة مواقفها من الدوحة واستدراك الزلل الدبلوماسي الذي وقعت فيه، ومنها السنغال التي أشرنا إلى تراجعها المبكر عن قرار المواجهة الدبلوماسية مع قطر.
صحيح أن السعودية لها حضور قديم في أفريقيا، وهو مدعوم في المقام الأول بالبعد الروحي الذي تمثله بالنسبة للأفارقة المسلمين كمهبط للوحي وبلاد للحرمين، كما أن الرياض كانت لها إسهامات تنموية واقتصادية كبيرة في أفريقيا من خلال قروض وتبرعات وهبات أذرعها المالية والاقتصادية كالبنك الإسلامي للتنمية وقروض الحكومة السعودية ورجال أعمالها ومحسنيها. إلا أن رعونة الدبلوماسية السعودية وسياسة الحشر في الزاوية قد تفقدانها علاقتها بالدول الأفريقية في ظل تنامي موجة الوعي الشعبي الطامحة للحرية والرافضة لأساليب الوصاية.
مشاريع واتفاقيات شراكة
كانت قطر تتعامل مع الدول التي انساقت خلف محور الحصار بنفس الروح الدبلوماسية المسؤولة التي كانت تعامل بها دول الحصار، فلم تمارس حق المعاملة بالمثل ولم تلوح بوقف استثماراتها ومساعداتها أو بترحيل رعايا الدول التي دخلت في جفاء دبلوماسي معها.
وخلافا لمنافسيها في الجزيرة العربية رفعت قطر أثناء زيارة الأمير الأخيرة لمنطقة غرب أفريقيا شعار الشراكة الاقتصادية المثمرة للجانبين، دون أن تستخدم سخاء صندوقها الاستثماري ومساعداتها كأوراق للضغط أو لمقايضة مواقف دول القارة.
فقطر تري أن التعاون الاقتصادي يجب أن يكون قاطرتها الرئيسية لتعزيز الحضور في هذه المنطقة، وأن المساعدات التنموية الأخرى يجب أن تكون مكملا ومحفزا لشراكة شفافة.
وعليه اتسمت زيارة الأمير التي شملت السنغال ومالي وبوركينا فاسو وغينيا وساحل العاج وغانا بتوقيع العديد من اتفاقيات الشراكة في المجالات الاقتصادية والتجارية والتنموية والاجتماعية والصحية والتشغيل والطاقة والرياضة ودعم الشباب.
ففي محطة السنغال وقع الجانبان ثلاثة بروتوكولات تعاون شملت مجالات الرياضة والشباب والثقافة، ومع أن حجم هذه الاتفاقيات لا يترجم المستوى الذي يجب أن تكون عليه علاقات الدولتين خاصة مع استعداد السنغال للبدء في عمليات إنتاج واستغلال الغاز الطبيعي في السنوات القليلة القادمة وما تتمتع به قطر من خبرة وكفاءة في هذا المجال، إلا أن مجرد توقيع اتفاقيات شراكة ثنائية يعتبر مهما في حد ذاته لكونه يظهر السنغال بالموقف الدبلوماسي الطبيعي والذي يتماشى مع موقعها كدولة ذات سيادة وخارجة عن مسار التبعية للرياض.
وفي مالي نسف حجم الاستقبال الرسمي والشعبي الكبير الذي حظي به أمير دولة قطر الصورة النمطية التي سعت دول الحصار لترسيخها خلال الشهور الماضية عن قطر من خلال اتهامها المستمر بدعم الجماعات المتطرفة بما فيها تلك الناشطة في شمال مالي، وكانت هذه المحطة فرصة لتوقيع الجانبين لاتفاقيات شراكة لدعم قطاع التربية والتعليم، وتلتزم الدوحة بموجب هذه الاتفاقيات بتقديم مساعدات لباماكو بقيمة 40 مليون دولار.
أجندة باقي محطات الزيارة نحت في ذات الاتجاه، حيث كان التركيز القطري على الجوانب الاقتصادية والتجارية.
ومع أن التغول السعودي بالمنطقة لا يمكن التهوين منه، إلا أنه يمكن القول إن قطر استطاعت تحقيق اختراق نسبي معتبر بهذه المنطقة وفي مرحلة حساسة من خلال هذه الزيارة التي يمكن أن تفتح لها الكثير من الأبواب والفرص، إذا تم تدعيهما برؤية واضحة على المديين المتوسط والبعيد، واستغلت قطر بالإضافة لذلك سمعتها كدولة داعمة لأجندة وشعارات الديمقراطية والحرية والحقوق، فهذه النقطة بالذات ستزيد من رصيد قطر لدى شرائح عريضة في الشارع الأفريقي تطمح للمزيد من الديمقراطية وتنحو لتوثيق الروابط وتعميق الصلات أكثر مع الأنظمة الخارجية الداعمة لحرية الشعوب.