لا يُربط الجملُ إلا حيثما يُريد صاحبُه/الولي سيدي هيبه

 

من النادر في هذه المرحلة، المطبوعة بركود العطاء الفكري و الثقافي، أن تقع عينٌ مستقصية على مقال متماسك يحمل هم الهوية و اللغة و يطرح بعلمية رصينة و في قالب الإيجاز الممتع إشكال الوطن، بقلم مثقف بـ"المعرفة" المحيطة و "الشهادة" العالية و قوة "بناء" و "نضج" محتوى العطاء المرجعي و جزالة لغة التوصيل و الإبلاغ. ففي بحر هذا الأسبوع قرأت مقالا متميزا لأحد الأساتذة الجامعيين حمل كل هم الوضعية الثقافية الراهنة تحت عنوان "كن أنت" في استنتاج قوي لإشكال غياب إدراك "الذات" الفردية و التغاضي عن معرفة سياقات و محاور أدوارها في بناء الهوية و حماية اللغة.

 

 

و لما أن الموضوع أثار اهتمامي فقد خطر على بالي من باب الفضول و رغبة الاستفسار و الاستعلام أن أتساءل عن مدى أهمية إثارة مواضيع من قبيل "البحث عن الذات" و " تحقيق الهوية" و "حدود مفاهيمية "التعايش" بين الأجناس و الأعراق" و حيز "الاثنيات" الأضيق في فضاءات مشتركة و على محك اللغات و الخلفيات الحضارية المختلفة، و هي المواضيع التي ـ و إن ما زالت تحتل، و لو في بعض تناقض لا يكاد يُدرك، حيزا في عموميات الفكر الإنساني ضمن سياقاته حول الاختلاف البشري ـ بدأ العقلُ، و قد تحرر من قيود "الظلامية" و "الخرافة"، يتَجاوزها على الرغم من الإرتكاسات التي يعاني منها "الشاذون" عن عمد و سبق إصرار مرضي - ضمن دائرة وحدته الجديدة حول محاربة إشكالات:

 

·        التراتبية بين شعوب المعمورة بناء على تنوع سلالاتها التقليدية (البيضاء، الصفراء، السوداء، الحمراء) و التي دحض العلم أي فوارق تمايز و اختلاف في بنيتيها العضوية و العقلية،

·        الأفضلية و الأسبقية الحضارية حيث ثبت تكامل جميع الحضارات الإنسانية في مساراتها و مقاصدها و إسهاماتها عبر الحقب بما لا يدع للشك مكانا في اتصالها و ترابطها مع بعضها،

·        الذكاء المتقدم عند أمم بذاتها و تأخر أخرى ذهنيا كما كان و إلى وقت قريب يُشاع عن شعوب منها الـ"أبوريجين" في "أستراليا" و أرخبيلات "بابوزيا غينيا الجديدة"، و الهنود الحمر من المايا و الأنكا و الأزتيك الذين قال عنهم رهبان المسيحية الأسبان ذات مرة بأنهم لا يملكون أرواحا تستحق الشفقة، قبائل من س في غابات "الأمزون بالبرازيل"، و أقزام "البيكمي" في "وسط إفريقيا"، حتى ثبت العكس تماما بالأدلة العلمية و الشواهد التطبيقية.

·        "دونية" لغات مقابل "ألمعية" أخرى إلا بما يكون من تأخر أهل الأولى النسبي لأسباب موضوعية في سياق ضعف عوامل القدرة على تحقيق السبق العلمي من ناحية، و حيث انحسار "الأفق الزمني" و ضيق رحابة "الحيز المكاني" و موت وقتي "الفراغ" الأبله و"الترف" الثقافي الحر المنفصل عن العلم التجريبي و مُبهر نتائِجه المادية و العلمية.

 

و من المعلوم أن قوة اللغة "الانكليزية" التي كانت في القرن الرابع عشر لهجة فقيرة المصطلح و بلا حروف تحولت فجأة، بفعل إرادة الناطقين بها و اهتمامهم بالعلوم (اختراع المحرك البخاري) و اهتمامهم بالآداب و الفنون (أعمال شكسبير الخالدة) وخيارهم النهج "الديمقراطي" في مسألة الحكم، إلى لغة عالمية ذات حمولة طافحة، ثم تضاعفت قوتها من بعد ذلك بفضل شعوب الهند و أستراليا و أمريكا التي امتلكت ناصيتَها و استغلّت و استفادت من قدرتها على تمرير الرسالة العلمية إلى حيز التطور التطبيقي. و لم يقلل امتلاك الشعوب ناصية اللغات الأجنبية، مطلقا، من اهتمامَها بلغاتها و لا زهدَها فيها أو جعَلها تهْجر أو تتنَكر لـ"هوياتها الحضارية" بكل تجلياتها، بل على العكس من ذلك كانت هذه اللغات محفزا و دافعا و وسيلة مثلى للرفع من مستويات لغاتها "النائمة" أو "الخائرة" حتى بلغت شأوا و التحمت نعه بالعلوم و الآداب و الفنون الرفيعة كاللغات التركية والفيتنامية و غيرهما كثير يضيق المقام عن حصره و عن ذكر إسهاماته العلمية و الأدبية و الفنية.

 

 

و مما لا شك فيه أن هوية الأوطان تقوى بمستوى الوعي فيها و درجة التقدم العلمي الذي تحققه و الاكتفاء الإنتاجي و الصناعي الذي تصل إليه و انتشار المعارف و تطور الآداب و الفنون. و في هذا السياق فإن مسألة "الهوية" لدى الشعوب التي تعاني - و هي قليلة - من تخلف النظم المجتمعية كبلادنا، تبقى إشكالا عصيا على الحل في ظل الخنوع لسلطانها. و من هنا يتضح أن معاناة اللغة العربية في هذه البلاد، التي تعتنق جميع المكونات فيها دين الإسلام الحنيف الذي نزل كتابه القرآن الكريم باللسان العربي المبين، في تعرضها لزحام اللغة الفرنسية التي أدخلها الاستعمار لتبقى بعد أن رحل، هي معاناة لا يبرر استمرارها على أيدي أهلها إلا معاناتهم أنفسهم من التأخر عن الركب و عجزهم عن الدفع بها إلى مكانتها المستحقة بالمعارف الحديثة التي ترتكز على القواعد العلمية المتينة و البعد عن حشو المعارف الجوفاء، المثبطة للهمم و القاتلة للطموح المشروع إلى امتلاك زمام التقدم  بهدف تحقيق الاستقلالية و القدرة على التنافس في عصر العلم و المدنية الراقية و التحضر المستنير، عِلما بأنه "لا يربط الجَمل إلا حيث يريد صاحبه"، و لا سبيل مطلقا إلى تكريس هوية أمة و إبراز ملامحها أو إلى ترسيخ لغتها و إثبات جدارتها و قدرتها التنافسية إلا أن ينبذ أفرادُها النظام الطبقي الجائر فيها بشجاعة، و يتقيدوا بروح العلم الراسخ بعيدا عن حضن الخرافة، و يبتعدوا عن التغني بالأمجاد الزائفة، و يتحلوا بالشجاعة و الجد و العمل و الإبداع و النزاهة الفكرية و العلمية، لأنه كل ما عدا ذلك مضيعة للوقت و حكم على البلد بالتلاشي البطيء.