استراتجية "النمو المتسارع.." وغياب البعد البيئي أي مستقبل؟

لم يكن من المتعارف عليه في السابق اعتماد الاعتبارات البيئية والاجتماعية كجزء من المعطيات التي يتم بناء عليها تصميم الخطط الاقتصادية والإستراتجيات التنموية للدول. إلا أنه أصبح من الواضح بأن وضع الاعتبارات البيئية في المخططات التنموية، يعطي أبعادا جديدة لقيمة الموارد واستخدامها على أساس تحليل التكلفة والفائدة وكيف يمكن المحافظة عليها، فضلا عما سيعود من ذلك من فوائد اقتصادية، بالإضافة طبعا لتحقيق هدف المحافظة على البيئة. 
وإذا نظرنا إلى نظم المخططات الإقتصادية التقليدية، فإننا نجد أنها تعتبر أن زيادة الإنتاج أو استخراج أكبر للمصادر الطبيعية (مثل زيادة الضخ من المياه الجوفية وزيادة الإنتاج من المواد الخام) هي مدخلات إيجابية عندما نقوم بحساب الناتج القومي الإجمالي. وحسب هذا المنطق فإن صيد سمك أكثر وقطع أخشاب اكثر وبيعها كأخشاب أو تصديرها ، كل ذلك يزيد من الناتج القومي الإجمالي، بغض النظر عما تتركه مثل هذه التوجهات من آثار بيئية سيئة، كزيادة سخونة الجو وفقدان طبقة الأوزون وتلوث كل من الهواء والماء، وهي آثار خطيرة لها تكاليفها المخفية وغير المنظورة. ولذلك نجد أن التنمية المستدامة تفترض أن تعكس الإستراتجيات قدر الإمكان التكلفة الافتراضية للموارد الطبيعية. وهنا يجب اتخاذ موقف سلبي من أي استراتجية أو مخطط اقتصادي لا يعتبر الموارد الطبيعية أصولا مادية قابلة للنضوب والتدهور نتيجة الأنشطة الاقتصادية المختلفة، لأن ذلك سيشجع استخدامها بشكل غير مستدام وسيؤدي إلى إساءة استخدامها، ما يؤدي إلى تدهور الوضع البيئي مما يفرض أعباء ضخمة على الاقتصاد على المدى البعيد، لأن تكاليف معالجة التلوث تزداد كلما زادت مدة إهمال علاج ذلك التلوث.

وبالنظر لهذه الإستراتجية التي تمتد على مدى أكثر من عقد من الزمن نجد أنها تفتقر إلى رؤية شاملة للأبعاد التنموية، فضلا عن الغياب الواضح للبعد البيئي فيها، حيث أنها اغفلت عن اشكالات بيئية تواجه البلاد ( التصحر، الإستنزاف المفرط للموادر الطبيعية..) وتعتبر عقبات تنموية كبيرة خاصة في الحيز الجغرافي الذي نعيش فيه، وبطبيعة الحال فإن هذه الإشكالات البيئية التنموية ستزداد حدتها ويتعقد حلها خلال العقد القادم.
ويعتبر غياب البعد البيئي في إستراتجية كهذه ينم عن قصور في فهم متطلبات المرحلتين الحالية والقادمة، إذ إنه في الوقت الحالي لم يعد هناك مخطط إقتصادي مهما كانت أهمية النتائج المتوخات منه، يمكن أن يغفل عن مدى تأثير الجانب البيئي سلبا أو إيجابا في تحقيق أهدافه، وذلك بفعل الترابط الحاصل بين البيئة والإقتصاد.
وفي ظل غياب البعد البيئي في هذه الإستراتجية وبما أن العنوان الكبير لها يبرز "الرفاه" كهدف منشود، وهو ما يوحي إلى الذهن زيادة دخل الفرد وتطور المستوى التنموي في المجتمع، فإن المفارقة أن هناك ترابط طردي بين التدهور البيئي والفقر، حيث إن تدهور الوضع البيئي يزيد من حدة الفقر من خلال:
1- تفاقم المشاكل الصحية: فالفقراء أكثر معاناة من التلوث وتدهور الموارد من الأغنياء.
2- يقضي الفقراء في الغالب وقتا أطول في الشوارع، لذا فهم أكثر تعرضا لتنفس هواء ملوث بعوادم السيارات والمصانع وحرق المخلفات..
3- تدني الإنتاجية: غالبا ما تتعرض الأراضي للتعرية وبالتالي تنخفض إنتاجيتها.

وبما أن أكثر من نسبة 42% من سكان البلاد يعاني من الفقر، فإن هذه الإستراتجية لن يكون لها أثر ايجابي إن لم يكن سلبيا بحكم فقدها لجزء أساسي من علاج المشكلة.

هنا نخلص إلى ما ورد في الإستراتجية ونبين بعض أوجه القصور في ما يتعلق بغياب البعد البيئي وعدم وضع حلول للمشاكل البيئية الكبيرة، في وقت تم فيه التركيز على مشاكل ليست بدرجة الأهمية ذاتها.

- أي مصير للثروة السمكية في ظل الإستنزاف و التلوث المتزايد في المياه البحرية الموريتانية؟؟

من أهم الموارد التي تمتلكها موريتانيا هي مياهها الإقليمة التي تصنف من أكثر المناطق وفرة بالأسماك بمختلف أنواعها، رغم ذلك بدأت هذه الثروة تعاني من استنزاف كبير أصبح يهدد إستمراريتها، فضلا عن التلوث الذي تعاني منه المياه الإقليمية الموريتانية بفعل غياب الرقابة على السفن ومخلفاتها، وكذلك النشاطات الإستخراجية في عمق المياه البحرية الموريتانية.

لذا وبما أنه مورد ناضب (غير متجدد) يعتبر عدم وضع مقرابة وحلول مستديمة للمشاكل التي تواجهه سقطة كبيرة من لدن واضعي هذه الإستراتجية.

- لا توجه للتخفيف من حدة التصحر الذي يهدد البلاد.

تعتبر موريتانيا من بين البلدان الأشد قحولا وتعرضا للتصحر بفعل موقعها الجغرافي، فحسب معطيات وزارة البيئةفإن أكثر من نسبة 78% من الأراضي الموريتانية تعاني من التصحر ويتسع نطاق هذه الظاهرة بوتيرة سريعة تتراوح ما بين 4 إلى 6 كلم سنويا. ولا تمثل الغابات والأراضي الشجرية والتي توفر حوالي 80 في المائة من حاجيات موريتانيا من الطاقة المنزلية وأساس حاجة المواشي من المراعي، سوى قرابة 3.3% من مساحة البلاد.
إذا ومن دون وضع حلول جذرية لمواجه تأثير ظاهرة التصحر سيكون ثلثي مساحة البلاد على الأقل، تنعدم فيها مقومات التنمية ويزداد الفقر بفعل التصحر، وآثار التغيرات المناخية.

- أي مصير للحياة في مدينة نواكشوط في ظل عدم وضع حل لمشكل التلوث و غياب شبكة للصرف الصحي؟

- تحدثت الإستراتجية عن تسيير النفايات الصلبة وهي إشكالية كبيرة ما زالت تعاني منها مدينة نواكشوط إلا أنها تجاهلت النفايات السائلة وتلوث الهواء، وما يشكلانه من خطر على البيئة والمتجمع، حيث إن لتلوث الهواء تأثير سلبي على الصحة والبيئة ويزداد هذا التأثير تعقيدا في البلاد بفعل غياب أي حل للمشاكل الناتحة عنها، حيث وصلت الإصابات بأمراض الجهاز التنفسي الحاد الناتجة عن تلوث الهواء سنة 2015 أكثر من 306 051 إصابة، كان أغلبها في مدينة نواكشوط، والمدن التي توجد فيها نشاطات استخراجية. وتبلغ نسبة الإصابا بأمراض الجهاز التنفسي(les Infections Respiratoires Aigues) في نواكشوط أكثر من 60 ألف حالة إصابة سنويا ما يقارب نسبة 27% من مجموع الإستشارات الطبية في العاصمة، وهي أكبر نسبة إستشارات من بين جميع الأمراض الأخرى في المدينة.

كما أن غياب حل لمشكل النفايات السائلة يشكل هو الآخر خطر حقيقي على مستقبل استمرار الحياة في مدينة نواكشوط بفعل قرب البحيرات الجوفية تحت المدنية، وهنا يتبادر إلى أذهان الكثيرين خطر الغمر للبحري، إلا أنه ليس الوحيد فبغياب شبكة صرف صحي لتصريف النفايات السائلة في مدينة نواكشوط قد لا يكون الغمر البحري هو الخطر الأكبر بل إن زيادة منسوب البحيرات الجوفية وتآكل الأبنية بفعل الملوحة المرتفعة سيجعل من شبه المستحيل السكن في المناطق المنخفضة في المدينة، هذا فضلا عن كون مخلفات هذه النفايات السائلة ( البرك، والمستنقعات ) تشكل خطر على الصحة، ومشوهة للمظهر الجمالي للمدينة.
وفي ظل غياب شبكة صرف: صحي حقيقية، يطرح سؤال كبير حول مدى قدرة مدينة نواكشوط على الصمود في وجه آثار التغيرات المناخية خلال العقود القليلة القادمة؟

- لا توجه للإستفادة من الطاقة المتجددة لدعم مسار التنمية المستدامة في البلاد؟
يطرح خلو هذه استراتجية من موضوع يتعلق بالطاقة المتجددة - خاصة وأنها تحدثت عن استغلال الموارد الطبيعية للطاقة - تساؤلات كبيرة حول معرفة واضعي هذا الجزء من الإستراتجية بالتنمية المستدامة وبالمتغيرات الحاصلة في العالم بفعل التغيرات المناخية، خاصة وأنها إستراتجية تمتد على طول أكثر من عقد من الزمن. إذ أن العالم أصبح يكرز جهوده للإعتماد على الطاقة المتجددة خلال العقود القليلة القادمة كما نصت على ذلك الإتفاقيات البيئية المختلفة وآخرها مؤتمر باريس حول المناخ 2015.
وتعتبر مصادر الطاقة المجتددة مصادر نظيفة وأقل تكلفة مقارنة مع المصادر التقليدية، فضلا عن كونها موارد متجددة، وتعتبر موريتانيا من بين البلدان الأكثر قدرة على استغلال الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية والطاقة المولدة من الرياح وذلك بحكم موقعها الجغرافي، حيث أشعة الشمس المتعامدة على المنطقة في أغلب فترات السنة، وكذلك الرياح القوية نسبيا في اغلب فصول السنة، هذا فضلا عن قدرتنا على استغلال الطاقة المولدة من الأمواج البحرية بالنسبة للمدن الشاطئية (نواكشوط - نواذيبو) .

في الحقيقة ما نحن بحاجة إليه هو استراتجية إنمائية تراعي الأبعاد المختلفة لتحقيق تنمية إقتصادية مستديمة ومتوازانه، تراعي البعد البيئي كبعد أساسي في أي مخطط تنموي.

إذا هنا يمكن لنا أن نتساءل:
هل نمتلك فعلا إستراتيجية تنموية حقيقة يتوخى منها نتائج ملموسة في ظل غياب البعد البيئي، وما يمثله من أهمية كبعد من أبعاد تحقيق تنمية متوازنة؟
هل حمل مخطط هذه الإستراتجية حلول حقيقية للمشاكل البيئية الكبرى التي تعيق تحقيق التنمية الإقتصادية في البلاد؟

فتاح محمد المختار